1 - لا أحسبني قادراً على التخلص من القول المعاد، فما ترك الدارسون لفنون الشعر العربي الحديث من متردم، بيد أنه لابد مما ليس منه بد....
... فالمداخل التي أعددتها لدراسة الأدب العربي الحديث في (المملكة العربية السعودية)، حين تمر بأنواع الفنون القولية، يكون الشعر من أولوياتها، وإن كنا قد أطلنا الحديث عنه في (المدخل التاريخي للأدب) لطغيان سلطانه فيما سلف من فترات، ولتمسكه بحقه فيما هو آت. وحين أخذت على نفسي استيفاء كل المداخل، كان لابد أن أكتب المدخل الخاص بالشعر قبل غيره، ويوم أن كنت أكتبها للطلبة، كنت أعول على جاهزيات مغنية عن الشعر والشعراء سبقني إليها زملاء مقتدرون، ومن ثم لم تقم الحاجة إلى مدخل الشعر، ولما استوت المداخل على سوقها، لتكون مؤلفاً يتداوله الناس خارج قاعات الدرس، بل خارج البلاد، أصبح من الضروري أن يكون المدخل الشعري من بينها. وحين عقدت العزم اعتمدت الإشارات، واستبعدت الشواهد لآتي على أكبر قدر من الشعراء الذين لا يكتمل الحديث دون الإشارة إليهم، وإذ يكون من المتعذر الجمع بين التراجم والشواهد، واستيفاء الحديث عن الكافة، فإن من اليسير على طالب التوسع أن يعود إلى المصادر التي سوف أشير إليها.
وإذ شحت الدراسات السردية إلى حد الندرة، فقد كثرت الدراسات الشعرية إلى حد الاستفاضة والإغراق. ومؤونة البحث في السرديات بكل صعوبتها ليست بأصعب من عملية الاختيار من الدراسات الشعرية. لقد وقفت أمام الدراسات التطوعية والأكاديمية والجزئية والشمولية والذوقية والمعرفية والمعيارية، فما وجدت عملاً فردياً يغني عما سلف وعما خلف، وتلك إشكالية تضاف إلى إشكالية الاختيار.وإذا كانت الصعوبة في كثرة الدراسات وفي تعدد المناهج وتنوع الآليات، فإنها كذلك في تفاوت مستوى الدارسين، وتباين اهتماماتهم، ومدى جديتهم والتفاوت قائم على أشده بين الدراسات الأكاديمية، وبخاصة رسائل (الماجستير) و(الدكتوراه)، وهو دون ذلك في دراسات الترقية والدراسات التطوعية، ويكاد التفاوت يبلغ ذروته في الدراسات الصحفية المأخوذة بالسرعة والمجاملة، وفقد المعيارية والمنهجية والخطة، ومهما حاولت تزكية عملي فإنني لا أملك لنفسي الاستقلالية، لا في المنهج، ولا في الآلة، ولا حتى في النتائج. غير أن زمناً ينازع نصف قرن قضيته مع الشعر والشعراء في المملكة دراسة وتدريساً وإشرافاً ومناقشة وتحكيماً وتأليفاً، سيجعل لهذه الدراسة مكاناً لا يتصدر الدراسات السالفة، ولكنه لا ينطفئ بحضرتها.
وأثق أن هذا المدخل يصدق عليه ما أطلقه (ابن رشد ت 595) على مؤلفه في الفقه، فهو بداية للمجتهد، ونهاية للمقتصد، فمن قصد بحور المعرفة استقل السواقيا. والدارس الذي لا يتجاوز بدراسته متطلبات المدخل يكون دون السواقي، ولكن أثباج المدخل تحرض على التجاوز إلى أمواج المعارف. وقصد الاختصار أصعب من رغبة بسط الإطالة، ومعتصر المختصر لا يلقاه إلا المتمكنون من معارفهم ومناهجهم وآلياتهم. ولقد توخيت في هذا المدخل جماع المناهج، وهو ما أميل إليه، فالتكاملية تأخذ من كل منهج بطرف، وقد تسد خلالاً كثيرة. ولقد عمدت إلى المنهج التكاملي في دراستي لكل المداخل، سعياً وراء التوفر على أخصر المختصرات.
والدارس لأدب الأقاليم، تواجهه خصوصيات زمانية ومكانية وثقافية ودينية واجتماعية وسياسية، حتى لا يجد بداً من استصحابها، لتسهم في بلورة القضايا الدلالية على الأقل. و(النقد التكويني) يهتم بتاريخية النص ومكوناته، وكل نقد قائم أو ثاو في كهوف التاريخ، إما أن يشتغل بالمكون النصي، أو بذات النص، أو بالتعالق مع ما سلف. ولكل نحلة متطلباتها وتنوعاتها وتعدد اهتماماتها. ف (النقد التكويني) إما أن يشتغل بذات المبدع من خلال بيئاته الأعم والعامة والخاصة والأخص ومشاربه واهتماماته، أو يشتغل بالعوامل المؤثرة في مجمل الحركة الأدبية، أو بالمؤثرات الفنية، وكم هو الفرق بين العوامل والمؤثرات، فالعوامل تتعهد الأدب حتى يستوي على سوقه، والمؤثرات تواكبه حتى يتخذ وجهته.
ولك أن تقول عن المشتغل بذات النص، من خلال لغته أو صوره أو موسيقاه أو تشكيله أو طرائق أدائه أو دلالته، وللنقاد في ذلك مذاهب شتى، والتشعب أخذ مداه مع النقد اللغوي، الذي تعدد بتعداد النقاد، حيث عرفت (البنيوية) و(التفكيكية) و(التحويلية)، وسائر متعلقات اللسانيات من علاقات وعلامات، وهو تشعب أثرى المشهد النقدي في المترادفات كالمثاقفة والتأثر والتأثير والتعالق والتناص والأشباه والنظائر، وما هو من متعلقات النقد المقارن، والاشتغال في تاريخية النص لا تأسره سلطة النص فهو معرف به لا شارح ولا وسيط.
2 - والتأريخ للشعر في المملكة لا يختلف عن التأريخ للشعر في أي قطر عربي، إنه حديث عن البدايات والمبتدئين، وعن التحولات والمتحولين، وعن المؤثرين والمتأثرين، وعن القصيدة منفصلة عن مبدعها، وعن الأعمال الشعرية مجتمعة أو متفرقة، وعن أثر البيئات الخاصة والعامة، وعن أسباب ذلك كله، وإذ يكون لكل شاعر همه وأسلوب تناوله، فإن الدارس والمؤرخ والناقد يظلمون المشهد حين لا يستحضرون ذلك كله أو حين لا يلمحون إلى شيء من ذلك وكل متعقب لظواهر الفن عامة يتطلع إلى الإجابة عن الأسئلة التقليدية:
أين، ومتى، ومن، وكيف، ولماذا، وهل؟
فأين كانت بدايات الشعر السعودي؟
ومتى كانت؟ وعلى يد من كانت؟ وكيف كانت؟
ولماذا كانت على هذه الشاكلة؟ وهل للشعر السعودي سمة جامعة مانعة تشمل مناطقه وأزمنته.
ومحصلة الإجابة كما البنية التحتية، ينطلق منها الدارس إلى آفاق أخرى، يستدعي الرواد والمؤسسين والمقلدين والمحافظين والمجددين والحداثيين، ومن معهم من النقاد والدارسين والمؤرخين، وأحسبنا حين نحسن الجواب، ونصدق القول، نكون ألممنا بمتطلبات المدخل الموجز، والحديث عن أدب إقليم أو فترة زمانية، أثار فضول القوميين الذين يتخوفون من التجزيئية، والمزايدين الذين يستقلون أدب أمتهم، ولا يرونه بإزاء الأدب العربي، وفي ذلك إغثاء وفضول، لا يستحق التعويل، فالاحتفاء بالمفردات طريق قاصد للكليات، والنزعة الأممية فوتت علينا فرص الإضافة القطرية.
3 - والحديث عن الحركة الشعرية في المملكة حديث يتطلب الإشارة إلى طبيعة البلاد السياسية، فما من شيء إلا هو آخذ بحجز السياسة، تنطلق به في الآفاق أو تهوي به في المكان السحيق، ولا سيما أن الأديب وثيق الصلة بالسياسة قدر وثوق السياسة والأدب معاً بالحركة الإصلاحية التي قام بها المصلح (محمد بن عبدالوهاب) رحمه الله، ومما يقوي صلة الأدب بالسياسة تزامنهما في النشوء والارتقاء، فما كانت السياسة شيئاً قبل قرن من الزمان، وما كان الأدب شيئاً مذكوراً قبل ذلك، وقد لا نجد بداً من استثناء (الحجاز) من هذا الإطلاق، ولقد نعرض لحيثيات هذا الاستثناء، والمملكة إبان التأسس، لم تكن دولة واحدة، بل كانت إمارات إقليمية وقبلية، وكانت التركيبة السكانية رعوية زراعية حضرية، والرعوية منها تخضع للتموجات التي تفقدها التوفر على متطلبات المجتمع المدني، كما لا يمكن التوفر على أدنى حد من الكفاف إلا ببذل أقصى جهد وأطول وقت من العمل، وحاجة الأسرة إلى جهد أبنائها لا يُمكِّن من طلب علم ولا قراءة، وحين عاد الملك (عبدالعزيز ت 1373هـ) رحمه الله من منفاه في الكويت عام 1319هـ كانت البلاد إذ ذاك مقطعة الأوصال متعددة الانتماءات متفاوتة الإمكانات، وكانت جل أقاليمها خارج المشهد السياسي والتعليمي، لأنها صحراء شاسعة رعوية متنوعة السكان، تحكمها الأعراق القبلية. ولقد هيأ الله له من الأسباب والتوفيق ما مكنه من بناء هذا الكيان الحضاري.
فالملك عبدالعزيز دخل الرياض في الخامس من شوال عام 1319هـ ولكنه لم يعلن توحيد المملكة إلا عام 1351هـ والمدة الممتدة بين العودة من المنفى والانتهاء من معركة التكوين وإعلان التوحيد تشكل عقبة في تحديد البداية الزمنية الدقيقة للأدب، وهي حاجة ملحة للمؤرخ دون غيره من الدارسين، ومتى استصحب المؤرخ الأدبي هذه الإشكالية لزمه إمرارها كما جاءت، والاكتفاء برصد الظواهر الشعرية لكل منطقة بوصفها جزءاً من المملكة بعد توحيدها. ولا أحسب أن هناك مشاحة، فالعهد (الهاشمي) في الحجاز كالعهد (الإدريسي) في الجنوب، وكل إقليم له ظروفه وإمكاناته، والملك عبدالعزيز ببطولاته وأخلاقياته تجاوز العقبات، وأذاب الحواجز، وأنهى الفرقة، واستقطب الأدباء والشعراء، ومكنهم من مواصلة عطائهم، فكان مثلهم الأعلى، وكتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) الذي اشتركت في تأليفه، يمثل ملمحاً من ملامح اهتمام (الملك عبدالعزيز) بالشعر، وتعلق الشعراء به من داخل البلاد وخارجها، إذ لم تكن له (أيديولوجية) مناقضة لما هو قائم، ولم يعمد إلى إخضاع إقليم لآخر، ولا قمع فئة لصالح أخرى، وذلك سر إقبال الناس عليه، ودخولهم في هذا الكيان أفواجاً، وتفجير مواهب الشعراء.وسوف لا نجد بداً من اعتبار (الحجاز) المصدر والمورد، ذلك أن له خصوصية لم تكن لغيره من الأقاليم، وله إمكانات لم تتهيأ لأي إقليم آخر، وإذ يكون (الحجاز) مهوى الأفئدة، فهو مصدر الشعر ومورده، ومع ما له من خصوصية دينية ومدنية وإمكانات اقتصادية وحضرية، فإننا لن نغفل بوادر هنا وهناك، في جنوب البلاد وشرقها ووسطها وهو ما فصلنا القول عنه في المدخل التاريخي، وأعطينا لكل إقليم ما يستحقه، وليس هناك ما يستدعي التكرار. يتبع