قصة الجريمة والعقاب معادلة لا يمكن تجاوزها في الثقافة الحية، لا أعني رواية الكاتب الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي، ولكن تلك الأفعال والإجراءات التي تملك في زمام تطبيقاتها بوصلة حركة المجتمع واستقراره، وإذا تم الخروج عليها تختل مفاهيم الجريمة والعقاب في المجتمع، ويختفي فهرس الجريمة وأسمائها، مما يجعل من تكرار حدوثها أمراَ عادياً ومقبولاً من فئات المجتمع..!، عندها يجب أن نتوقف كثيراً، إذ يحتاج الأمر إلى وقفات وإعادة قراءة لما يحدث في مجتمعنا من تفاوت في الموقف من الجريمة والعقاب.
كان رجل المرور متكئاً على مقدمة سيارته يكتب تقريره عن حادث السيارة الذي حدث نتيجة قطع أحدهم إشارة المرور، وجاء تساؤل المتضرر من الحادث عن موقف قانون المرور المحلي من قطع إشارة المرور، ولا سيما أنها قد تكون كارثية بكل ما تعنيه الكلمة، وقد تصل إلى إهدار حياة الآخرين، فكانت إجابته كافية لرفع أكثر من علامة استفهام على موقف المجتمع من الجريمة.
أخذ يسرد خيبة أمله عما حدث له في الأمس، فقد أوقف شاباً في مقتبل العمر وهو يقود سيارته بسرعة تتجاوز 200 كلم/ الساعة، ولم تمض ساعات على توقيفه، حتى تم إطلاق سراحه بسبب مكالمة جاءت من خارج إدارة المرور، يعني (بالعربي) طلع كأن شيئاً لم يحدث.. عندها وصلت لقناعة بأن الموقف من الجريمة في مجتمعنا يختلف تماماً عما حاول أن يصل إليه دوستوفيسكي من خلال روايته الشهيرة.
سقط سوق الأسهم وأكلوا الأخضر واليابس، بعد أن أفرغوا جيوب الناس من مدخراتهم تحت شعار النمو الاقتصادي الذي لا يتوقف عن الصعود، وظهر المدعون على شاشات التلفزيون يرفعون قضاياهم أمام المجتمع، وتم توجيه أصابع الاتهام إلى المسؤول وإلى البنوك، والمؤسسات الكبرى والهوامير وغيرهم، وتم إقالة المسؤول، ثم مرت القضية مرور الكرام، كأن شيئاً لم يحدث، ولم يتحرك أحد ليتقصى آثار ما حدث من أجل إعادة الأموال الضائعة.
أكد تاجر العقار أن تلك الأرض الواسعة في وسط الحي هي حديقة عامة لأهل الحي، كما تنص عليه أنظمة تخطيط الأحياء، وكنت دائماً عندما أمر أشعر بفرحة لأنه يوجد فراغاً في الحي، وقد يكون حديقة خضراء قريبة من المنزل، ولم تمض سنوات حتى شاهدت لوحة كالخنجر المغروس في قلب أرض الحديقة، كُتب عليها الأرض للبيع، وعندما سألت عما حدث، أخبروني بأن الأرض تم تحريرها من الملكية العامة إلى الخاصة.
منذ سنوات وأنا أسمع عن فتحات المجاري التي دون توصيلات تحت الأرض لتصريف المياه، وظننت أن الأمر مجرد شائعة أو كلام عابر يجيد إتقانه مثيرو القلق في المجتمع، وبكل أمانة لم أصدق أن يكونوا بتلك الجرأة، إلى أن جاءت الكارثة، لتطفو الجثث على سطح السيول الجارفة.. وجاء رد وزارة المالية ليظهر جزءاً من الحقيقة، (ما تم اعتماده لمشروعات الصرف الصحي ومشروعات تصريف الأمطار في محافظة جدة هو الأعلى على مستوى مدن المملكة بما في ذلك العاصمة الرياض، وأن هذه المشروعات غير قادرة على منع كارثة المطر حتى بعد اكتمالها نتيجة سد مجاري السيول).. لسبب بناء المخططات العقارية في بطون الأودية.
عانى بطل رواية الجريمة والعقاب - راسكو لنيكوف - من تأنيب الضمير ومن التمزق الداخلي والحيرة والقلق، لأنه بعدما قتل المرابية، اضطر إلى قتل ابنتها التي لم يكن يتوقع وجودها في البيت، وذلك لإخفاء آثار الجريمة، وهكذا فقدت الجريمة إحدى أركانها، فقد أراد - راسكو لينكوف - قتل المرابية بالذات لأنها تستغل الآخرين وتستنزف قواهم، غير انه قتل إنساناً بريئاً آخر..، وأدت تلك المعاناة إلى اعتراف بطل الرواية بجريمته، والسبب أنه لم يستطع الخروج من ألم المعاناة وأنين الضمير.
كذلك هو الحال في جدة، فأركان الجريمة واضحة المعالم، لكن ضمائر أولئك الذين باعوا مجاري السيول للمواطنين لم تتحرك على أقل تقدير لتقديم الاعتذار للمجتمع، ثم التعازي لأهالي الضحايا، مما يجعل الموقف من الجريمة في المجتمع أكثر غموضاَ، فقد تم تطبيع الجريمة، وإدخالها في المباح، لتصبح من ممارسات الإنسان الطبيعية، وأجد أن الموقف الحالي من تعريف الجريمة يحتاج إلى جهود خارقة للعادة من أجل إعادة الاعتبار للضمير والعقاب.