إنه بتاريخ الوقفة، الموافق ليوم نحر الخديعة، جرى تحديث بيانات حفائظ النفوس للذين أدناه، والزج بها في مهب الريح.
في عالمنا الرقمي هذا، تضاءلت الأشياء بين أيدينا رويداً رويداً، وغدا للمايكرو والنانو والبكسل اليد الطولى؛ حتى استحوذت على اعتباراتنا وقياسات قيمنا، وأضحت سلاسة الانسحاب، وانسيابية التواطؤ، وإتاحة التنصل، ورهافة الحرج، أماراتنا الفاصلة.
عاثت بنا التقنية مليّاً، إلى حدٍّ أمسى عنده الولوج إلى أنظمتنا الاحتكارية لا يُفسَح إلا بالرقم السري خاصتنا، وحال استنفادِ محاولات الخطأ، الشحيحة بالأساس، يستغلق الاجتياز أبد الدهر، ولا يفلح أحذق مبرمجي حكماء القوم في فك شفرة إبليس.
فردانيتنا وتغوّلنا الإلكتروني يطردان كما عقربي ساعة، ويتبوّأ أثرياء التقانة ذروة سنام المفلسين في الأزمة العالمية. أدْمَنت أناملنا الريموت كنترول إلى أن فتكت ذبذباته بذائقاتنا التي لا تروقها خلا إعدادات ضبطها، وأمسى التذمر ديباجة الشاشة. الكل حائكون مَهَرة، بتفصيلات فائقة الدقة والصرامة.
ثخنت ذاكرة أجهزتنا، واتخذت لها الميقا والقيقا، في ظل نحول ذاكرة عقولنا الداخلية المنحسرة، كانحسار الأمل عن غريق. وأمعن مزودو خدمات التواصل في تدليلنا، وكأنهم يعون تماماً فحوى شرذمتنا، ولكن أخفقت حتى أبرع العروض السخية مكراً في تشذيبنا. وما بين شحذ الإبهام وكبس الزر الأخضر، ثمة دزينة من التدابير والأفكار والعراقيل، وصار إنسان هذا الزمن هو الأشد احتياجاً إلى شركات تشغيل محتالة تحسن أفكار التسويق، أو الصيانة.
فروضنا الاجتماعية منزوعة الدسم، واستحقاقات علاقاتنا الإنسانية أعباء تنوء بها كواهلنا الرشيقة إلا من عَرَض دنيا.. نقيم احتفالاتنا (...) بلا طهارة، ونعود مرضانا، الذين يقضون، مسكونين بدهاليز الردهة. شغلنا الشاغل خريطة طريق التملص، بالغاً ما بلغت العواقب، وضاهينا داهية العرب إياه في رسم سبيل النفاذ قبل أن يَعْلَق.
إعراب اكتراثنا ردة فعل، والمصادفة في محل رفع الفاعل.. مسدنا قلوبنا بأعتى المناجل، واتخذناها مضامير وحلبات عريقة ترتجّ ليل نهار. وعلى محيّانا نرسم الشفقة، بينما في صميمنا يدوّي التصفيق. التبرير لدينا فاتحة الحديث، ولا صوت يعلو فوق نشوب الضجيج، وما أنصفنا حواسنا الخمس على هدي الكتاب المقدس.
أوزاننا عصية على المكاييل المتفشية، وعوضاً عن الباوند والكيلو، يجري الركون لترميزات نادرة لا تأبه بجداول التحويل.
وفقط عند امتحان الصندوق، يتسنى تقييم الزبون حديث العهد، وفقاً لمدفوعاته، فإذا ما عاود التبضع، تنهال عليه الامتيازات والخصومات، وعلى الشاكلة ذاتها تدور الأمور؛ حتى بلوغ اليقين.
نهيم حباً بالمآرب إلى أن نتمرغ فيها، إثر ذاك نتكبّد العمى وننعى الهيام، ونعلن شغور القلب في بيان رسمي، حتى مأرب آخر. وزمن الهيام الأول نزدان بالنياشين، ووقت النعي نئن بفعل الغثيان. نغدو خماصاً في مناكب الشره، ونروح بطاناً آخر الأمسية صوب منزل الفجيعة، حتى غدوّ ثان، وهكذا دواليك.
أيّامنا مسلسلات سرمدية من صفقات السمو المرجأة، ومواثيق النقاء المبددة أدراج الانشغال، وكأنما نرتقب يوماً ذا أربع وعشرين ساعة فردوسية لأجل أن ينال شرف الإدراج في أجنداتنا. وعقدنا قِران أوقات الوداع والشدائد، كأزواج كاثوليكيين على عهود الجمال المبرمة.
لا نؤدّي من فروضنا إلا صلاة الغائب، ونتوارى عن صلاة الجمعة خلال أزقّة المدينة، وابتكرنا أنواع شهادات الفخر والتكريم، بيد أنّ أقصاها شرفاً لم تناهز دكتوراه الموت الفخرية.
في كتاب النفوس خاصتنا شتى الأبواب: موبقات، وكبائر، وصغائر، ولمم. وفي الحواشي، يشاع أن ثمة تنويهاً طفيفاً يطال الطهارة، مكتوباً بحبر سحري. تزخر خزائننا بشتى الأصناف: لبوس العبادة، ولثام السطو، وأقنعة جمة ذات ألوان مسمّاة، وحاويات أصباغ الزينة للأمسيات، وحتى العري له من ذلك حظ.
مياهنا عكرة، كيما نزاول هوايتنا الأشدّ أثرة: الاصطياد. وتكتظّ جعبنا بالرماد وحسب، لذره دوماً في العيون. ومن خط رجعة لآخر، حتى غدونا رجعيين بتطرف، وبتنا لا نحسن سوى سير القهقرى. وجراء الإفراط في الانحناء للريح، تهتّكت أجسادنا عن نيل بلح النخيل.
نحترف البكاء على اللبن المسكوب، ولمّا كان يملأ القدح ما كنا نعبأ به قط. ندبّج قصائد المديح المبنيّة على الفتح، والمرصّعة بالعويل، بينما نعتمر طاقية الإخفاء وسط مهرجان البدار. ازدوجت معاييرنا، ودقّّت حساباتنا، ولا تبثّ إذاعاتنا سوى أغنية الدَعَة، لو بأصوات نشاز.
وفي خاتمة المطاف، وقت أن نأوي إلى مخادعنا، نزجي عتمة نفوسنا، ونستقدم هناء السبات الجافل، بعدّ خراف الأضاحي.
ts1428@hotmail.com