هذه محاضرة قدّمتها في نادي الحدود الشماليّة (مدينة عَرْعَر)، مساء الأربعاء 9 ذي القعدة 1430هـ الموافق 28 أكتوبر 2009م، بعنوان: (شِعريّة المكان في تجربة شاعر الشمال/ سلمان بن محمّد الفَيفي: (مدينة عَرْعَر نموذجًا)). وكانت مناسبة تكريميّة عبّرتْ عن وفاء أهل عرعر- إمارةً وناديًا ومواطنين- لشاعر عرفوه وأحبّوه، عاش بينهم أكثر من عشرين سنة، معلّمًا، وشاعرًا، وناشطًا ثقافيًّا.(1)
وبدءًا لا بُدّ من تعريف بحياة هذا الشاعر وشِعره. فقد وُلد الشاعر سلمان بن محمّد بن قاسم الحَكَمي الفَيْفي في فَيْفاء، بُقعة الخَشْعَة، جبل آل بِلْحَكَم (أبي الحَكَم): سنة 1363هـ- 1943م. وتلقّى تعليمه الأوّليّ في مدرسة الخَشْعَة(2)، في فَيْفاء(3)، إذ التحق بها سنة 1373هـ. ثم انتقل للدراسة في معهد ضَمَد العلميّ. ثم عاد إلى فَيْفاء، فعُيّن مدرِّساً في مدرسة الخَشْعَة، وكانت تُسمى (معهد الخَشْعَة)(4).
وبعد إلغاء مدارس القرعاوي(5)، التي كانت مدرسةُ الخَشْعَة تُعدّ إحداها، انتقل الشاعر للالتحاق بمعهد صامطة العلميّ. فدَرَسَ في معهد صامطة في قسمه التمهيديّ، فالمتوسط، فالثانويّ، وحصل على شهادة المعهد، (القسم العامّ)، سنة 1386هـ. ثم التحق بكليّة اللغة العربيّة في الرياض، وحصل على شهادة الليسانس سنة 89-1390هـ. ليلتحق بالتدريس في معهد الرياض العلميّ سنة 1391هـ. وبعد عمله هناك سنة دراسيّة، انتقل للعمل مدرِّسًا في المعهد العلميّ في عَرْعَر. واستمرّ في التعليم في معهد عَرْعَر العلميّ، ليشغل فيه بعد سنوات وظيفة وكيلٍ للمعهد، ثم مديرٍ للمعهد، قبل أن يَطلب التقاعد المبكّر، نظراً لظروفه الصحّيّة.
عانى الشاعرُ الأمراضَ منذ صِباه. وكان آخرها أن اكتشف الأطباء، في بداية سنة 1421هـ، إصابته بتورّم خبيث في الكبد، تبيّن أنه حالة متأخّرة لسرطان، أُعلن عن استحالة علاجها. فكابد مرضه ومضاعفاته بصبرٍ، حتى توفّاه الله في الرياض، في شهر رمضان من السنة نفسها، 1421هـ- 2000م.
عرفتُ الشاعر شغوفاً بالمعرفة، ولاسيما في اللغة العربية وآدابها. فلقد تتلمذتُ على يديه، ثم خَبِرْتُهُ عن كثب، في مُقامه وسفره، وذلك بحُكم القرابة؛ فبيني وبينه ما كان بين طَرَفة والمُتلمِّس، أو بين الأعشى والمسيّب بن علَس.. ثم بحُكم رابطة التخصّص والاهتمام المشترك. فكان المثقّف، المطّلع، القارئ من الدرجة الأولى، الحافظ، حاضر الذاكرة، سريع البديهة. حتى إن بعض زملائه كانوا يلقّبونه ب(الموسوعة)؛ نظراً لتردّدهم عليه - كلّما حزبهم سؤال لغويّ أو أدبيّ - أعيتهم إجابته. وكان إلى ذلك شديد التواضع والزهد في الأضواء. ومِن آثار ذلك عدم اهتمامه بنشر شِعره في حياته، مع كثرة ما كان يلحّ عليه في ذلك أصدقاؤه ومحبوه. كما كان كريماً، جميل المعشر، خفيف الظلّ، يُشيع الدُّعابة والفرح أينما حلّ أو ارتحل، وإنْ في أحلك الظروف. وفي أجواء مرضه الأخير - الذي يكفي ذكره ليبعث الفزع والأسى والحزن - كان سلمان صورة أخرى من الناس، ونسيجًا فريدًا من النفوس. إذْ أبى إلاّ أن يكون صابراً، محتسبًا، كبير النفس إلى آخر لحظة.. يذكّرك بقول أبي الطيب المتنبي:
وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبتْ في مُرادها الأجسامُ
وكان لمّاحاً، لَبِقًا، محبوباً من كلّ من عَرَفَه. كما كان ساخراً بالحياة وتقلّباتها.. واستمرّ على ذلك حتى آخر أيّامه. ولعلّ في نصوصه الشِّعريّة ما يدلّ على تلك السجايا فيه.
(ونواصل)
(1) وتمكن متابعة تفاصيل عن تلك الأمسية على موقع النادي: http://www.adabinorth.org
(2) الخَشْعَة: البقعة المركزيّة من جبل آل أبي الحَكَم في فَيْفاء، حيث كان منزل الشاعر والمدرسة التي تلقّى تعليمه الأوليّ فيها.
(3) فَيْفاء: منطقة جبليّة، في جنوب المملكة العربيّة السعوديّة، شرقيّ مدينة جازان. تقطنها قبائل تعود في نَسَبها إلى خَولان بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة.
(4) معهد الخَشْعَة: أسّسه الوالد الشيخ أحمد بن علي بن سالم الفَيفي، في جبل آل أبي الحَكَم، سنة 1373- 1374هـ. وكان مَدْرَسَة للبنين والبنات، استمرّ عمله إلى آخر سنة 1377هـ، وخرّج عددًا من المتعلّمين والمتعلّمات. وفيه أسّس الوالد أوّل مدرسة للبنات في تاريخ فَيفاء، قبل التعليم النظامي للبنات في المملكة. وكان من مدارس المنطقة التي حظيت برعاية الشيخ عبدالله القرعاوي.
(5) الشيخ عبد الله بن محمّد بن حَمَد القرعاويّ: مُصْلِح دينيّ، يُنسب إلى قرية القرعا شماليّ بريدة بالقصيم، وُلد سنة (1315هـ- 1898م). قَصَد تهامة 1358هـ، فأنشأ المدارس في صامطة وما جاورها، وأعان على إنشائها، وامتدّت مدارسه إلى عسير. توفي بالرياض سنة 1389هـ- 1969م. (يُنظر: الزركلي، خير الدين، الأعلام، (بيروت: دار العلم للملايين، 1984)، 4: 135).
http://alfaify.cjb.net
aalfaify@yahoo.com