لا يمكن تجاوز فاجعة غرّة الحجاز في عيدها، وهي رغم مرور أكثر من عشرة أيام، لازالت تئن وتستغيث، ولا يمكن تجاوز الخطب الجلل وجدة الحبيبة بعد أن فاقت من الغرق ترتعد اليوم من رائحة المسك.
ويا للمسك، روائح فساد ونتانة خيانات وإهمال جعلت رائحة القاذورات مسكا وريحانا، لولا أن رحمة الله أكبر وأوسع والرجاء به أشد وأقوى وأمتن من (مرادم) المفسدين، إذ هيأ لهذا الشعب العزيز ملك العدل والحسم ليعلن الحرب على الفساد والمفسدين.
إن البيان الملكي غير المسبوق أو المعهود، قد جاء ليكون فاصلاً تاريخياً بين ما قبله وما بعده، ومؤسساً لحاجات ضرورية وملحة، لضمان بناء مستقبل أكثر أمناً وسلامة واطمئناناً، فقد جاء واضحاً وصريحاً ومشخصاً للداء ومسفهاً للأعذار الواهية التي تسابق عليها بعض المسؤولين في جهاز الحكومة وبعض وسائل الإعلام للأسف، كما أن البيان الملكي جاء مؤسساً لبرنامج عصري جديد من الرقابة والمتابعة والمحاسبة، وعادلاً لا تأخذه في الحق لومة لائم ولا حصانة كائن من كان.
إن أي مواطن وإذ يستشعر الأسى والحزن والألم بما حل من فاجعة مروعة في جدة الحبيبة، لاشك يرى في البيان الملكي بلسماً ودواء ونفحة من الرحمن الرحيم، الذي ألهم القائد، رغم قداسة الدفاع عن الوطن أمام طغاة مارقين، ومتابعة حجاج بيت الله الحرام في المشاعر المقدسة، ليعلن وبكل شفافية ووضوح الترجمة الحقيقية لما حدث، وما يستوجب من عمل، فرسم خارطة الطريق نحو الحلول الحقيقية التي استهدفت حدثاً بعينه وهي في نفس الوقت تعني فيما تعني شمولية التوجه نحو الفساد والتقصير بكل أبعاده وفي كل مساحات الوطن، وهو أيضا رحمة لوعي المواطن الذي تحمل تبريرات عجز وفشل العاجزين والفاشلين، أولئك الذين تعودوا وباستمرار تجيير كل قصور وتقصير إلى وعي المواطن.
إن ما حل في غرّة الحجاز ودرة المدائن، قد يحل بغيرها من مدن الوطن لو لم يظهر هذا البيان الملكي التاريخي، ولا تكمن أهمية هذا البيان في معالجة فاجعة العروس في عيدها فقط، ولكن ليوطد العزم على بناء وتأسيس عهد المراقبة والمحاسبة، والتي بدونها لا يمكن لوطن، مهما كان، أن يبحر في عباب التقدم والتطور أو يبني في حاضرة مهما توفرت له الموارد مستقبلاً آمناً مطمئناً.
وإن تولي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة مسؤولية تشخيص الحالة وبحث أعراضها وتسمية الفيروسات والجراثيم التي شكلت هذا العفن وأوهن عظام بنت مكة وبوابتها، يجعله أمام إحدى أهم وأجل خطوات الوطن نحو مستقبل لا مكان فيه للأوطان المتهرئة أو المتخمة بالوهن، وبالتالي فالمسؤولية لاشك كبيرة وعظيمة، وفوق هذا وذاك، فإن كل العيون ترقب نتائجها ومجراها، وهو بالتأكيد كفؤ لتحمل هذه المسؤولية وشرف التكليف الملكي.
ويبقى دورنا كمواطنين إذ أعتقد أن علينا أيضا مسؤولية أمام القائد، وذلك بالرقي بوعينا وحسنا الوطني، حتى نكون أداة مساعدة في تسهيل مهمات رسم إستراتيجيات التنمية والبناء، وأن لا يكون البعض فينا عالة معيقة لتقدم الوطن فكلنا نعرف أن هؤلاء المقصرين أياً كانوا هم من أهلنا ومنا وفينا، ولم يأتوا من كوكب آخر، ومن المؤسف حقاً والمؤلم أن نتجاهل واجباتنا تجاه الوطن أمام إغراءات المنصب والنفوذ، وأن لا نتذكرها إلا في أوقات البحث عن الحقوق، فيكون بعضنا في النهاية عبئاً على الوطن، بدلاً من أن نكون أياديه التي تبني حاضره ومستقبله.
ما حدث في جدة وإن كان أصابنا بالألم والأسى، كنتيجة لتقصير البعض وضعف أمانته، فلا يمكن وليس من العدل أن نحمل تبعاته بشكل تام على مدير أو وزير أو أمير أو حتى حكومة، بل إننا أيضاً كشعب وأفراد نتحمل جزءاً من المسؤولية، أدناها أو أقلها حسن تربية الأبناء، من خلال غرس عشق الوطن وتقديمه على الذات، ولتكن أنانيتنا وغيرتنا للوطن وعلى الوطن أكبر وأجل منها على المنفعة الفردية.
Hassan-alyemni@hotmail.com