قال الله تعالى: ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا? كما قال سبحانه: ?إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ
أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ?، كما قال عز من قائل: ?وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ? وقال سبحانه: ?وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ?.
خلف الله الإنسان وحمّله الأمانة، وكلفه بإعمار الأرض وإصلاحها، وليس إفسادها أو المشاركة في ذلك، ومن نتائج إفسادها الخلل الذي لا يتحاشى معه من ينتمي لهذه الفئة من قياس الأبعاد فلا يتصور ما قد يكون من نتائجه من هلاك الآخرين، وفي لحظتها شديد اهتمامه بدوافع فساده والمصلحة الشخصية في ذلك.
إنّ الله قد مكّن الإنسان الصالح في الأرض وليس من أخذ بمنهاج الإفساد والغش، فقد قال عزّ جلاله على لسان موسى عليه السلام حين قال لقومه: ?قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ?. ?قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ?.
أمام هذه النصوص الواضحة الجلية لقول الحق عزّ وجل فلنا الحق أن نسأل عن أثر هذه الآيات على معتقد من سعى في الأرض فساداً.. إن عمار الأرض لا يمكن أن يتداخل مع إفسادها مهما كان المبرر أو المقابل لذلك، ولعل بيان خادم الحرمين لم يأتِ من فراغ وإنما على ضوء ما قال به البيان فإنه تعبير واضح لمقدار إحساسه بالمأساة التي جسدتها عبارات قام عليها البيان، فنحن الآن من خلال جملة أحاسيس الألم لما انهار في أخلاق فئة من المجتمع أمام التوجيه الرباني، فهم الآن أمام خالقهم وأمام البيان الذي لم يأتِ ليستهدف من كان على هامش الحادثة، فالبيان بكل ما عنى الدافع له أمر الله، والدوافع الإنسانية التي تأبى صياغة الأسباب لما حدث وتبرره، كما أن الأمل لكبير أن تكون هذه المناسبة فرصة مراجعة لما تمّ في جدة على مدى سنوات مضت لنتلافى مخاطر قد تكون شرارتها تحت الرماد كما أن المواطن في جدة أعطاه الله هبة يجسدها تاريخ جدة العريق ووفرة من الجمال والحسن.
وحين تنتصر المصلحة الشخصية بضيق أفقها على مصلحة عامة يعمّ خيرها على مجتمع يستحق، ولابد أنه شارك في الأعمال الخيرة التي بها صارت جدة مدينة يجب الحفاظ عليها وعلى ما فيها.
وليس من باب إعفائهم من مسؤوليتهم أو تبرئتهم من الخطأ الفادح والتفاصيل عنهم في ذمة اللجنة التي شُكلت لمعرفة الأسباب، ودون أن نسبق النتائج فإن الإنسان يقف بين قوتين، أحدهما لها من بريق الدنيا وزخرفها وشهواتها ومغرياتها ما تغري به فيميل الإنسان إلى الشر: ?وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ? وقوله تعالى: ?وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3}? وقال تعالى أيضاً: ?إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا?.
أما القوة الثانية ولارتباطها بالعقل فإنها تدفعه إلى طريق يميز من خلاله الهدى من الضلال، والرشد من الغي، وبالوعي الذاتي والتقوى يندفع إلى الخير والعدل والمساواة والعطف والرحمة، وفي هذا ما يرضي رب العالمين، فمتى انتصر الإنسان على نفسه وميّز بين هاتين القوتين، ووضع المصلحة العامة وإتقان العمل كهدف يلتزم به مخلفاً وراءه ما يغري من مكاسب الدنيا: ?بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى?.
ومن سمات الرشد أن يحرص الإنسان على التوازن بين تلك القوتين، ولابد أنه سيرضى من خلال ما ينجز ويتقن من عمل، وحين يحقق مصلحة للناس فإن ذلك مصدراً لرضا رب العالمين ومن ثم رضي لنفسه.
إننا لا نبالغ في القول ولكن مأساة ما حدث تؤلم النفس، وتفجر عنفوان الغضب، فمن تسبب في هلاك مائة نفس أو أكثر لا يمكن اعتبار ذلك بالسهل على من يكرم النفس كما أكرمها الله وأمر بالحفاظ عليها، ففي الذكر الحكيم يقول المولى عز وجل: ?وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا?.
وخلاصة القول إن ما حدث مأساة كبيرة ومؤلمة، ونحمد الله أن وفّق خادم الحرمين فأمر بالكثير، وهو عطاء الواثق المؤمن الذي يخشى ربه ويأمل رحمته، ولعل الله يقبل في رحمته وفسيح جناته من استشهد في الوقت الذي تقدم بأحرّ التعازي إلى ذويهم، وما عند الله خير وأبقى.