التحوّلات الهيكلية التي تشهدها بلادنا هي السمة الظاهرة للإصلاحات الاقتصادية التي يقودها خادم الحرمين الشريفين.. ولعل توسع الدولة في إنشاء الهيئات والمجالس المنظمة لقطاعات التنمية مثل هيئة الاتصالات وهيئة السوق المالية وهيئة الغذاء والدواء وهيئة الإسكان والمجلس الأعلى للقضاء وهيئة الكهرباء وغيرها يشير بوضوح إلى ذلك: فكلّها هيئات مناط بها تطوير العمل في قطاعاتها لتعزيز قدرة عناصر أسواقها وتأكيد حضورها وتحفيز الاستثمارات فيها وتوسيع دائرة الفرص التي تطرحها وحماية المتعاملين فيها بما يسهم في توسيع القاعدة الإنتاجية ويوفر السلع والخدمات بشكل مستدام وبجودة معيارية عالمية وأسعار متناولة.
إن تطوير الأنظمة والإجراءات والتأكد من تطبيقها بعدالة يشكل الأساس لخلق بيئة تنموية تعود على البلاد والعباد بالخير الكثير.. ولكن ذلك غير كافٍ دون توافر موارد بشرية مؤهلة بالعلوم والمعارف والمهارات.. فالمورد البشري يعد أهم موارد الإنتاجية الذي يستطيع أن يبتكر ويبدع ويكسر قيود عناصر الإنتاج.. والراصد لما تفعله الدولة لإمداد اقتصادنا بأصول بشرية وطنية مؤهلة يرى أنها وفرت التمويل وسخَّرت الجهود لتطوير منظومة تأهيل الموارد البشرية الوطنية بشكل كمي ونوعي معاً.. ولا شك أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تعد قلعة من أعظم قلاع التأهيل النوعي.. وهي جامعة ينتظر أن يكون دورها وتأثيرها كبيراً يتجاوز دور وتأثير جامعة البترول إبان حقبة السبعينات الميلادية. هذه الجامعة التي تعد جامعة دولية للأبحاث على مستوى الدراسات العليا التي أنشئت للانطلاق بالوطن نحو عصر جديد.. قدمت إعلامياً في إطار سياسي وثقافي أضعف مكانتها في أذهان بعض المواطنين؛ لأنها أصبحت مثار جدل وموضوع صدام في مساحات ثقافية ضيقة تشكل بؤر توتر في مجتمع محافظ اختلطت فيه المفاهيم الدينية بالمفاهيم المجتمعية.. وهذا الطرح غير المناسب غطى بطريقة أو بأخرى على الفوائد المنتظرة والأهمية الجمّة للجامعة على التنمية الوطنية.. وحوّلها في أذهان العامة من أداة تنموية فاعلة خصوصاً في المجال الاقتصادي إلى وسيلة لتنفيذ أجندة ترفضها شريحة من المجتمع!
من المحزن أن تتحول الألماسة إلى فحمة.. أو أن يتحول مثال الفخر والاعتزاز إلى موضوع للتوجس والاتهام.. فكيف تحوَّلت السجالات التي تدور حول الجامعة على مواقع الإنترنت إلى سجالات اتهام وإدانة.. ولماذا صارت المقالات التي تتصدر صفحات الصحف اليومية عن الجامعة تدور حول الاختلاط.. ولماذا بات الحديث يدور في المجالس عن الجامعة وهل هي من ضمن الوسائل التي تفرضها العولمة لتغيير المجتمع وتغريبه.. وضاعت حقيقة الجامعة وأهدافها وغاياتها في هذا الصخب الذي تجاوز أصل الموضوع وغاياته إلى فروع جانبية صار علو الصوت فيها مكرساً للانتصار للجماعة والحزب على حساب البحث عن الحقيقة.
لقد أصبح التعليم العالي اليوم فرس الرهان ونجم سباقات التنمية.. ولا بد من تقديم وسائله ممثلة في الجامعات بالصور الصحيحة حتى لا تتعثر وسائل النهوض به لأسباب خارجة عن ذات السياق.. وهذه مهمة يجب أن تتصدى لها الجامعات بنفسها.. وإن كان من واجب وزارة التعليم العالي متابعة ذلك.. فهل نرى جهوداً مخططة لمعالجة الإشكاليات التي خلفها طرح (كاوست) بعيداً عن إطارها العلمي البحثي الاقتصادي المهم؟