بعد أكثر من ستة أشهر قضاها مستشار جهاز حكومي لتحويل أعمال استشارية وتنفيذية إبداعية في المجال الإداري إلى مناقصة تشتمل على جدول كميات يُمكِّن الشركات المتخصصة من تقديم عروضها تقدمت إحدى الشركات بالسعر الأقل ففازت بالمناقصة.. وعند تعميدها بالعمل اتضح للقائمين على هذا الجهاز الحكومي أنهم أمام مستشارين أقل ما يُقال بحقهم بأنهم مجموعة تتدرب على تقديم الاستشارات بالرجوع إلى الكتب المنشورة في عالم الإدارة دون ممارسات سابقة.
تمَّ إلغاء العقد بعد معاقبة الشركة الفائزة وإلى هذا اليوم لم تتم الاستعانة بمكتب استشارات إدارية لأن نظام المشتريات يفرز الأقل سعراً، والأقل سعراً يفرز الأقل إبداعاً والاستشارات الإدارية عمل إبداعي والمبدعون مرتفعو التكلفة.. وهكذا يدور هذا الجهاز في حلقة مفرغة.. وهذه مشكلة الكثير من الأجهزة الحكومية التي ترغب بشراء الخدمات الاستشارية الإبداعية مثل خدمات الإعلان والعلاقات العامة والاستشارات الإدارية والهندسية وغيرها.
شركة تعاني من انخفاض مبيعاتها مقابل ارتفاع مبيعات المنافس الذي استحوذ على حصة كبيرة من السوق حل مشكلتها مستشار تسويق متمكن وذو خبرة كبيرة مقابل مليون ريال بعد أن حلل وضع المتنافسين خلال ثلاثة أيام فقط وأعاد لها حصتها بالسوق، نعم مليون ريال خلال ثلاثة أيام.. ولكن ما هي الملايين التي ستحققها الشركة مقابل هذا المليون، بكل تأكيد لا مقارنة بين التكلفة والعائد ولكن القطاع الخاص غير مقيد بنظام مشتريات جامد متكلس صلب.
أحد كبار الاستشاريين في مجال العلاقات العامة قال لي إنه يتجنب التقدم للمناقصات الحكومية التي تغص بالشروط والتهديد والوعيد فضلاً عما تتطلبه من تكاليف عالية لتقديم ضمانات مالية وإنه يفضل العمل مع القطاع الخاص المحترف الذي يستطيع أن يفرِّق بين الغث والسمين.. ويعرف قيمة الاستشارات وقيمة خبرة من يقدمها ويشرف على تنفيذها ولديه مرونة كبيرة لتوقيع الاتفاقيات دون قيود وشروط إذعان مصاغة بلغة الشك والريبة أكثر من لغة الشراكة والتعاون.
وحال هذا الاستشاري هو حال كل الاستشاريين المحترفين، وهو ما يعني حرمان الكثير من الأجهزة الحكومية من الخدمات الاستشارية الاحترافية ما يؤدي إلى هدر كبير بالموارد نتيجة اعتماد هذه الجهات على خبرات العاملين فيها أو خدمات جهات استشارية متواضعة تقدم أقل الأسعار، ما ينتج عنه الهدر الكبير في المال والوقت، وهو الهدر الذي نريد أن نخفضه إلى أدنى المستويات بتعزيز قدرات العاملين التحليلية والتشخيصية والتخطيطية والتنفيذية والتقويمية بقدرات المستشارين المحترفين من أصحاب المعرفة والخبرة والمهارات.
كيف لنا أن نعالج مشكلة عدم تمكن الكثير من الأجهزة الحكومية الحصول على خدمات استشارية متميزة في كافة مجالات عملها بسبب نظام المشتريات الذي لا يفرِّق بين شراء منتج وبين شراء خدمة إبداعية لتتمكن من تحقيق أعلى كفاءة إنتاجية لمواردها بحلول ابتكارية إبداعية خارجة عن المألوف، أعتقد أن الحل يتمثل بإيجاد نظام مشتريات خاص بشراء الخدمات الاستشارية يُمكِّن الأجهزة الحكومية من الحصول على أفضلها بتطوير معايير مقارنة بين العروض المتنافسة يكون السعر أحدها، لكنه بكل تأكيد ليس العنصر الحاسم في تحديد الفائز منها.
* * *