لا زلت أذكر جيداً, عندما عبر عدد من أهالي العيص وقراها - قبل سبعة أشهر - عن استيائهم مما ينشر في بعض المنتديات والصحف الإلكترونية, إضافة إلى بعض خطب المساجد والمحاضرات التي تنقل: أن ما يحدث...
...في العيص من زلازل متتالية, إنما هو بفعل ارتكاب الذنوب وكثرة المعاصي, حتى قالوا: (ما ذنبنا, وهذه زلازل سببها طبيعة المنطقة, حدثت منذ عهود ماضية في زمن الخلفاء الراشدين.. وهذا التعاقب الزلزالي في المنطقة، هو تعاقب جيولوجي في حركة صفائح الأرض في تلك المنطقة التي تعرف بالحرة).
بعد مرور الوقت الكافي على حدوث الزلازل في العيص, تذكرت تلك المآسي الإنسانية التي رأيناها, والناتجة عن الظواهر الطبيعية, التي جعلتنا واقفين مستسلمين أمام مفترق طريقين في تفسيره تلك الأحداث, أحدهما: ما شرحه علماء الجيولوجيا, من أن هذه المنطقة منطقة زلازل منذ القدم, ومواضع لبراكين جامدة منذ الأزل, وأن لها تاريخاً في ثوران البراكين والهزات, فهي ظاهرة طبيعية، عبارة عن اهتزازات أرضية سريعة، بسبب تكسر الصخور وإزاحتها، وتراكم إجهادات داخلية نتيجة مؤثرات جيولوجية، نجم عنها تحرك الصفائح الأرضية. والجميع يعلم أن هذه المنطقة منطقة بركانية على مدار التاريخ، حيث وقع أشد انفجاراتها في عام 654هـ، كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية، حين تحدث عن ظهور النار التي كانت بأرض الحجاز، حتى أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى. وأما الرأي الآخر: فهو يقصر حدوثها بسبب ارتكاب العباد للذنوب والمعاصي والمجاهرة بها، فهي حينئذ عقوبة.
إن أهم ما يمكن إضافته في هذا الموضوع، هو: أن فصل الأحداث الكونية عن الحقائق الشرعية والنواميس الكونية منهج غير رشيد. فتفسير علماء الجيولوجيا يندرج في منظومة القوانين الطبيعية التي وضعها الله فيما خلق، ولا ينفي أبدا أن هذه الزلازل آية من آيات الله، يخوف الله عباده كما يخوفهم بالكسوف والخسوف وغيرهما من الآيات. وتندرج هذه الظواهر الطبيعية تحت حكمة إلهية في خلق الكون، لا تخرج عنه قيد أنملة، وهي - أيضاً - لا تخرج عن مبدأ الترغيب والترهيب والثواب والعقاب. فقد تقع تلك الكوارث الطبيعية لحكمة يراها ربنا - سبحانه - دون الحاجة إلى مزايدات وعظية وربطها فقط بالعقوبة، فهذا المنهج فيه خلط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فالغيب لا يعلمه إلا الله -سبحانه -. ثم إن مثل هذه الكوارث الطبيعية قد تكون لحكم عديدة، أرادها الله - سبحانه - لعباده. أما حصرها في العقوبة فقط بسبب الذنوب، فهذه أزمة طالما عانى منها العقل المسلم في ظل غياب ثقافة التعاطي مع تلك الظواهر الطبيعية.
المشهد نفسه يتكرر - هذه الأيام - بخصوص كارثة جدة، وارتباط ما حدث من كارثة بعقوبة إلهية، بسبب الذنوب والمعاصي، والمجاهرة بها. مع أن تعميم الكارثة كعقوبة ليس صوابا، فليس كل كارثة تحصل سببها الذنوب. وإلا سنهرب من مكاشفة الحقائق، ولا نراها - حينئذ -، ولا نحاسب المتسبب، ولا نلاحق المفسد.
إن أهم درس يمكن أن يستفاد من هذه الكارثة يمكن قراءته، هو: أن نتضامن مع ضحايا جدة، بحكم الانتماء المشترك إلى هذه الأرض، وهو ما تمليه علينا فطرنا، ويزكيه ديننا، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، علينا أن نفتح الملفات الضخمة من الفساد الإداري والمالي، وأن نواصل الإصلاح من الأخطاء المتعلقة بإهدار المال العام، وأن نسائل من عبث بمقدرات الوطن ومكتسباته، حتى نجيب عن السؤال الأهم: كيف غرقت جدة في (تسونامي) مثير؟
drsasq@gmail.com