هطلت على مدينة جدة يوم الأربعاء الواقع في الثامن من شهر ذي الحجة عام 1430هـ أمطار غزيرة توالى هطولها ست ساعات من السادسة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً.
|
ونتج عنها غرق أكثر من مائة شخص، وتم إنقاذ أكثر من ألف شخص وغطّت السيول والمستنقعات أكثر من أربعة آلاف سيارة، وهدمت بيوتا كثيرة، وامتلأت بعض الأنفاق من السيول.
|
هذه بعض المشاهدات من ذلك اليوم.. وقال بعض سكان جدة وضيوفها إنهم لم يروا مثل تلك السيول ولا توقعوها فقد أتت فجأة، وبقدر لم يخطر بالبال، ولذلك لم يأخذوا حذرهم ولم يحتاطوا لها.
|
والذي نتمناه هو أن يكون الغرقى شهداء عند الله تعالى رحمهم الله رحمة واسعة ومنّ على الجرحى والمرضى بالشفاء العاجل.
|
ولكن الذي يهمنا الآن وللمستقبل هو ما الدروس المستفادة من ذلك الحدث الكبير؟!
|
سؤال لا تفي بالإجابة عنه سطور يسيرة كهذه، ولا يملك كاتب مثلي أن يعطي حلولاً ودروساً كافية من ذلك الحدث وله.. ولكن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه.
|
من العجب أن يقول أحد: إن ذلك غير متوقع!! في بلد يقع بجوار البحر وفي فصل تكثر أمطاره!!
|
فالعرب كانوا يبنون بيوتهم في الجبال والمرتفعات ويحيطونها بالأسوار المنيعة من التراب والحجارة والجدران السميكة العالية.. وذلك احتياط لا ليوم أو شهر ولكن للسنين القادمة كلها حتى إذا جاءت السيول يوماً كانت تلك السدود -بعون الله وتوفيقه- أماناً وحماية لهم.
|
فهل فعلنا ذلك؟! أم أننا نبني البيوت في مجرى الأودية وبالقرب منها دون احتياط، ثم نجأر بالشكوى إن داهمتنا السيول!!
|
ثم إن التهور قد أصبح سمة لسلوك أكثر الناس اليوم، فمنذ أن يبدأ سقوط المطر يخرج الناس زرافات ووحدانا لمشاهدة المطر والاستمتاع به.. ولذلك في الأصل سنة نبوية.. ولكن: السنة أن يخرج الإنسان متاعه ليصيبه المطر ويصيب جسم الإنسان وذلك يتحقق داخل البيت وفي أسواره.. أما أن تمتلئ الشوارع بالسيارات دون داع ضروري حال نزول المطر وأن تمتلئ الأودية ومجاري السيول بالسيارات عبثاً وفوضوية وفضولاً فذلك مظهر استهتار وإهمال وتفريط يدفع ثمنه من ارتكبه.
|
والدرس الثالث من ذلك الحدث هو أنه من الحماقة الاعتماد على الحلول المادية والاحتياطات البشرية في التعامل مع سنن الله ومقاديره في الكون، ولإيضاح هذا الأمر أقول: هل من العقل استعمال الأنفاق المنخفضة حال نزول المطر اعتماداً على مجاري السيول واحتياطاتها المنفذة في النفق -إن وجدت-.. كلا فما ذلك من الحكمة، وإنما العقل في البعد عن تلك الأنفاق حال نزول الأمطار -بقدر المستطاع- لأن مقدار السيول والمطر ليس لها حد معين، والأساس الذي بنيت عليه مشاريع تصريف السيول غير ثابت.. ونحن نعلم أن الله تعالى قال ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ?.
|
والدرس الرابع هو درس موجه إلى الأخ الكريم الفريق سعد بن عبدالله التويجري مدير عام الدفاع المدني في المملكة العربية السعودية حرسها الله من كل سوء.
|
أخي معالي الفريق: ليس لدينا في المملكة أنهار، وإنما عندنا أودية كبيرة وصغيرة ومواسم أمطار وأراض تسقيها الأمطار وتلك حقيقة يراها كل سكان المملكة.
|
وآباؤنا رحم الله من مات منهم وحفظ الأحياء يقولون: كل وادٍ سال يوماً سيسيل طال الزمن أو قصر، وكل واد امتلأ سيلاً سيمتلئ يوماً. وذلك ما لا ينكره عاقل. وإذا كان بعض أوديتنا عرضه مائة متر فكيف تختصر تلك المائة إلى عشرين متراً في بعض مدننا؟!
|
وإذا كان بعض الأودية عرضه خمسين متراً مثلاً فكيف سلم لبعض البلديات أن تنشئ عليه طرقاً ويوضع تحت الطرق أنابيب لا يتجاوز قطرها متراً واحداً لكل منها، كيف يكون ذلك وقد سدت تلك الأنابيب من أول سيل محدود مر فيها واعتلى السيل ظهر الطريق؟!
|
أخي معالي الفريق: إذا سُدَّ مجرى السيل فأين يسير؟! وإذا ضيق مجرى الوادي فأين تذهب الكميات الأخرى من السيل؟!
|
كيف نعالج النتائج ونحن نعرف الأسباب: ألا ترون- حفظكم الله- أن الأمطار والسيول تحتاج إلى مجاريها وذلك ما تحتاجه المدن كما تحتاجه القرى.. ولا يجوز أن نغتر بقول من قال: إن ذلك المجرى أو الوادي لم يسل منذ عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة!!
|
فالأودية تمتلك الأرض قبلنا ومن حقها ألا نعتدي عليها.. وهذه مقولة للملك فيصل- رحمه الله- لمن أتوه يشتكون من أضرار السيول -وقد بنوا بيوتهم ومزارعهم في مجرى الوادي- فقال لهم- رحمه الله-: الوادي قبلكم أم أنتم قبله؟! فقالوا: بل هو قبلنا.. عندها قال بكل اختصار وعلى البديهة: أنتم المعتدون المخطئون والوادي لم يخطئ عليكم.. وهنا أقترح أن يكون الدفاع المدني شريكاً أساسياً في إعداد مخططات: الطرق والأحياء السكنية والصناعية ويكون من حقه أن يتمسك بفرض مجاري السيول كما هي وبحجمها الطبيعي وقاية للأنفس والممتلكات وحماية للمساكن والطرق، وحفاظاً على الاقتصاد والوطني وتلك قيم عليا تحرص حكومة بلادنا بقيادة خادم الحرمين الشريفين- حفظه الله تعالى- وتعمل لها قطاعات الدولة كلها، فالتعليم والصحة والدفاع وغيرها تحمي المواطن والمقيم، وتوفر لهم الأمان والصحة وتبعد عنهم كل خطر وشر وفساد ومرض.
|
غفر الله لمن مات في سيول جدة وتقبّلهم عنده ومنحهم أجر الشهداء كما ورد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في صحيحه (.. والغريق شهيد).
|
والحمد لله على سلامة من أنقذ من الغرق، وأعظم الأجر لمن ساهم في الإنقاذ ومواساة المصابين وعونهم.
|
ولقد وقف قائد بلادنا وإمامنا العادل خادم الحرمين الشريفين وقفة الشرف والبطولة والشهامة بصدور أمره الكريم بمحاسبة المقصرين في سيول جدة ووقف وقفة الكرم والرحمة والأبوة الحانية بأمره الكريم بصرف مليون ريال لأسرة كل شهيد في سيول جدة وتعويض المواطنين عن ممتلكاتهم. أمد الله خادم الحرمين بالصحة والعافية وبارك في عمره ووقته وسدد خطاه ونفع به البلاد والعباد وجزاه خير ما يجزي به عباده الصالحين. وحفظ الله سائر بلادنا من كل سوء ومكروه.
|
وإذا كان ما أشرنا إليه من عبر من حادثة سيول جدة جديرا بالتدبر والعلاج، فأكبر هذه الأسباب ما ذكره معالي الدكتور جبارة الصريصري وزير النقل من أن من أسباب مشكلة جدة: تأسيس أحياء ومخططات على مجرى السيول والأودية. وفي ذلك يقول الشاعر عبدالرحمن العشماوي:
|
ما بالهم تركوا العباد استوطنوا |
مجرى السيول، وواجهوا التيارا |
السيل مهما غاب يعرف دربه |
إن عاد يمم دربه واختارا |
فهل يعطي هذه القضية حقها من الاهتمام من يوقعون على المخططات السكنية والصناعية و غيرها.. (السيل مهما غاب يعرف دربه) وكبار السن هم فقط في كل بلد من يعرف دروب السيل.. وفق الله العاملين المخلصين لكل خير.
|
* ص ب 19 الدلم 11992 |
|