يتوهم كثير ممن تُوكل إليهم مسؤولية من مسؤوليات الأمة والوطن، بأنه إنما شُرّف بنيل مركز من المراكز يصول فيه ويجول بما تمليه مصلحته الخاصة لا المصلحة العامة، وكأنما هي فرصة فردية وأتته لابد أن يغتنمها بكل ما أوتي من قوة على المستويين المادي والمعنوي، ولسان حاله يقول أنا ومن بعدي الطوفان.
وقد نسي أو تناسى هذا المسؤول وأمثاله أنالمناصب العامة تكليف لا تشريف، وأنها أمانة
ثقيلة أبت السماوات السبع والأراضين السبع أن يتحملن وطأتها، رغم أنهن أقوى من الإنسان بكثير، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على جهل المخلوق البشري وغروره وبالتالي تسرعه بالموافقة، لأنه يعتقد أنها منحة وهي في الواقع محنة، أي امتحان عظيم يحتاج لجهد جهيد نفسيا وبدنيا لمقاومة ما تمليه عليه النفس الأمارة بالسوء التي تؤججها الأطماع الشيطانية التي لا تشبع ولا تهجع.
وعلى الرغم من ذلك فهناك من المسؤولين والمسؤولات من يكون في البداية أهلا لاختيار ولاة الأمر ومستحقا للثقة، بيد أنه بعد أن يستقر به كرسي المسؤولية تلتف عليه بطانة سوء تسوّل له فعل ما يشين لأنه سينالها من الحب جانب، إلا أنه حب سلبي سيدفع كل الأطراف المشاركة إلى طريق الندامة الذي ينتهي عادة نهاية مسدودة مخزية في الدنيا والآخرة.
وتستعيد الذاكرة بهذه المناسبة حادثة قريبة واقعية مؤثرة -شهدتها بنفسي- وقعت بين إحدى المسؤولات وبين موظفة من موظفاتها، حينما استدعتها لتولي أحد المناصب التابعة للمؤسسة الحكومية التي تقودها تلك المسؤولة المحنكة، فرفضت حينها تلك الموظفة أن تتولى ذلك المنصب رغم أحقيتها بتوليه، وحينما ألحت عليها الرئيسة استمرت في الرفض وهي تجهش ببكاء مرير ممزوج بحزن عميق!.
وحينما تساءلت تلك المسؤولة عن سر ذلك الرفض الممزوج بتلك الدموع والعبرات؟ أجابتها المرشحة: أن السبب لا يعدو خوفها من ثقل المسؤولية أمام الله تعالى، الذي لا تغيب عنه صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فكيف بأمانة مسؤولية ثقيلة ومصالح مجموعات من الناس.
وعند ذلك ازدادت المسؤولة تشبثا بمثل هذه الموظفة النادرة على مستوى البشر، إلا أنها ازدادت رفضا قاطعا مدعّمة رأيها بقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل مغلولا يوم القيامة يده إلى عنقه فكّه بره أو أوبقه إثمه)، وفي رواية أخرى مفسرة لها: حتى يقتص منه جميع رعيته منه.
ثم أردفت تلك الإنسانة المشفقة من حساب ربها: إذا كنت أحمل همّ عبء ذنوبي الخاصة، فكيف سأتحمل تقصيري في حق جميع رعيتي، لاسيما وقد قال عليه الصلاة والسلام : (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته), فلم يستثنِ رسول الله من المسؤولية أحدا، ثم قامت من مقعدها وهي تكفكف دموعها، وتعتذر الاعتذار النهائي الحاسم، وسط دهشة الموجودات وانبهارهن ومراجعتهن لذواتهن.
g.al.alshiakh12@gmail.com