إذا عرفنا أن أحد أهم خصائص المجتمعات النامية هي (أنها تنتظر من الفن أن يكون موجهاً لها) فلا غرابة إذن أن يظل الفن لديها في أقل مستوى، بل إنه لن يتقدم مطلقاً إلا إذا تغيّرت نظرته تلك إلى نظرة المجتمعات المتقدمة التي ترى الفن نوعاً من التسلية والترفيه. انظر إلى تعامل المجتمع السعودي على سبيل المثال - بوصفه - مجتمعاً نامياً إلى الفن، نراه يسعد كثيراً عندما يرسل (المسلسل التلفزيوني) رسائل توجيهية للمشاهدين أو رسائل نقدية للمؤسسات الحكومية والأهلية أو يبين لهم ماذا يأكلون ويشربون، ومن جانبه يريد من اللوحة التشكيلية أن تناقش هماً اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، يريد أن يبحث المسرح عن حلول للمشكلات الفردية والأسرية وغلاء المعيشة، يريدون من الصورة الفوتوغرافية أن ترصد معاناة طفل، أو إرهاق شيخ هرم، يريدون من الشعر أن يعكس همومهم مع الوظيفة والعمل، يريدون من الرواية أن تسجل تاريخ آلامهم.
والمجتمع السعودي بوصفه مجتمعاً نامياً، يغضب عندما يصور الفن أحد أفراده في حالة لا تتوافق مع قيمه، فلو نقل الفن رجلاً (سعودياً) عربيداً في مرقص، لثاروا وقالوا: (إن هذا العمل الفني يسيء للمجتمع السعودي)، وهم بذلك لا يفرقون بين (الشخصية الدرامية) في عالمها المتخيل، وبين الرجل السعودي في عالمه (الطبيعي)، وهذا الخلط تعكسه ثقافة المجتمعات النامية التي لا تريد من الفن إلا أن يكون موجهاً وداعماً ومرشداً لها، كنتيجة حتمية تؤكدها خصائص المجتمعات النامية.
وفي المقابل نرى المجتمعات المتقدمة أو (المدنية) تضع الفن في حقل (التسلية) وليس في حقل (التربية والتوجيه) ولا تجعله يقول ما يريده الناس، وإنما ما يقوله (الإبداع). فالفن لديها حالة (إبداعية) يصطاد فيها الفنان لحظة زمنية شاردة يريها للملتقي فعيشان سوياً تلك اللحظة الجميلة، هنا يحصل الفرح تماهياً مع تعريف الفن الذي يقول: إنه حالة من الفرح. وليس حالة من التوجيه والإرشاد. والفن بهذه الصيغة (المدنية) لا تعني (الفن لمجرد الفن) لأن هذا العنوان، لا أصل له في اللغة، فلا يوجد شيء اسمه الفن للفن، لأن الإنسان - أي إنسان - لو مارس الفن سيخرج منه بفائدة أيا كانت هذه الفائدة، أما أن يحيل الفن إلى لا شيء فهذا أمر محال، ومثل ذلك: لا يوجد شيء اسمه الرياضة للرياضة أو الأكل للأكل، لأنك لو مارست الرياضة أو أكلت تفاحة حتما ستخرج بفائدة. وإنما أطلقت عبارة الفن للفن بهدف تشويه هذا المعنى الذي لا تستغني عنه البشرية، واقرؤوا إن شئتم كتاب (ضرورة الفن) لتعرفوا قيمته. وأزمة الفن في المجتمعات النامية لن تحل إلا عندما يتحولون للمجتمعات المتقدمة، حتى يعرفوا - حينها - أن الفن غير التوجيه، وأن لكل من الفن والتوجيه خطه المستقل، فالفن وفق ما سبق (قيمة عليا) لا تترعرع إلا في البيئات (المدنية).
NLP1975@Gmail.com