Al Jazirah NewsPaper Tuesday  08/12/2009 G Issue 13585
الثلاثاء 21 ذو الحجة 1430   العدد  13585

لكيلا نكون الفردوس المفقود..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

لكل شيء في الوجود من عقائد وممارسات طرفان ووسط، وتلك مسارات أزلية، تتعاقب الأجيال على مدارجها فمقل ومكثر، ومُوبقٌ ومعتق، وحَمَلةُ الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال

أن يحملنها يراوحون بين المسارات الثلاثة بوعي أو دون وعي، وبإرادة حرة أو بتدبير متعسف يأطرهم كارهين أو طائعين عليها.

والناس المقصودون بالتكليف إما مقترفون لخطيئة التفريط في جنب الله، أو مجترحون للإفراط في تمثل أمره على مراده، وهم كذلك فيما سوى التكاليف الدينية تحدوهم العواطف الهوجاء أو تثبطهم العقول المترددة، وفي كل الأحوال إما أن يكونوا غنيمة باردة لمن يتربصون بهم الدوائر ممن يودون إعناتهم، ولا يألونهم خبالاً، وإما أن يكونوا وبالأعلى أنفسهم وعلى من حولهم إذ مثلهم كمثل الذين يخربون بيوتهم بأيديهم، والوسطيون -وقليل ما هم- يحفظون بممارستهم المتوازنة الحقوق والكرامة ويحققون مراد الله لهذا الكون، وفي الأثر: (إن الله لينصر الدولة الكافرة بالعدل، ويخذل الدولة المسلمة بالجور) والظلم والجور يقع على الأمة، وقد يمتد إلى أمم مسالمة، فيكون التسلط والإجحاف بحق الآخرين، وتلك طبيعة دول الاستكبار والإضرار. والمسارات الثلاثة تتبادل المواقع، والناس معها بين سنن التدافع والتداول، ومن خلالها مجتمعة أو متفرقة يتحقق الصراع الحضاري أو الصدام التسلطي بين الخلطاء والمتجاورين، وقد تجر شهوة السلطة والتسلط الأباعد ليكونوا طرفاً في المواقف غير السوية، ومن يظن عصمته من الناس بمجرد توخيه الوسطية يمكِّن للآخرين من ثغوره ومثمناته، غير أن الجانحين للسلم المتوكلين على الله يمد لهم الله حبله ويسدد حذفهم، وإذا أصابهم شيء من جور المتطرفين فإن ذلك من باب الابتلاء على حد: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) وليست الإشكالية في تعرض الأمة المعتزلة لدخن الفتن المعارضة، ولكنها في تواصل هذه الفتن وتنوعها وفداحتها وتعاظمها مع إمكانية تحجيمها والانحناء لمرورها بسلام.

والعالم الإسلامي ظل مسرحاً للأحداث الجسام إذ ما زال يتجرع تلك المرارات الناتجة عن تفسيمه إلى دويلات ضعيفة والتنشيط المتعمد للقوميات والإقليميات والطائفيات والسعي الدؤوب لتنوع التركيبات السكانية، وتباين العادات، وتفاوت المستويات الاقتصادية والثقافية، وتعدد الأحلاف، وتناقض المصالح، واختلاق المشاكل، وتغذية النزاعات، الأمر الذي عمق هوة الخلاف والتنازع وحال دون التقارب والتعاون أو التعاذر على الأقل، وتجاوز هذه المعوقات ليس بعزيز على الهمم العالية والأمة العربية في ظل هذه الأوضاع غير السوية مهيأة لضياع مماثل لضياع الفردوس المفقود، وقد تكون مشروع صحوة تعيدها إلى رشدها، وَتَحْدُو قوافلها إلى مرافئ السلامة، ومفاتيح ذلك بيدها إن هي أدركت واقعها وتداركت أمرها قبل فوات الأوان.

والمصائر المتوقعة خيارات صعبة وإن كانت مطروحة في الطريق وعلى الأمة تقدير المواقف والحيلولة دون فوات الفرص، ولن يتأتى ذلك إلا إذا فكر ذووا الشأن وقدروا وتنادوا إلى كلمة سواء تنجيهم من تلك الترديات المتلاحقة، وليس مستحيلاً تقارب وجهات النظر، وجمع الأشتات متى حسنت النوايا وسلمت المقاصد وأحس كل مسؤول بثقل الأمانة وعُسْر الحساب، فالناس فطروا على الخير وولدوا على الفطرة، والخيرية قائمة في هذه الأمة إلى قيام الساعة، غير أن البيئات الموبوءة هي التي تتقاذفهم ذات اليمين وذات الشمال، والتاريخ حافل بالفترات المضيئة، ولهذه الفترات الذهبية أسبابها ومحققاتها كما أن لشيوع الفتن وسقوط الدول أسبابها ومحققاتها والأمة الراشدة هي التي تستحضر الأسباب وتستصحب وسائل النجاة وتنبعث من تحت ركام الشقاق مثلما انبعثت (اليابان) من تحت ركام الإشعاع النووي، وواقع الأمة العربية مُدْركٌ بكل تفاصيله والجادون قادرون على تحديد نقطة البداية، وهي ممكنة متى صَحَّت العزائم وأدرك القادة ما هم فيه وما يجب أن يكونوا عليه. والمشاهد العربية بادية للعيان يعرف الراصد لها المصلح من المفسد والجانح إلى السلام والمؤجج للفتن، ولو ترجمت تلك المشاعر والمعارف لاستطاعت الأمة تدارك الأمر. وتفادي المشاكل لا يأتي دفعة واحدة ولكنه وليد التفكير والتقدير والتقويم واستفتاء الضمائر الحية وإيثار الحق على الانتصار وحمل هم الخلاص:

وما استعصى على قومٍ منالٌ

إذا الإقدامُ كان لهم ركابا

لقد مارس قادة ثوريون وزعماء مجازفون اللعب بالنار وزج مقدرات شعوبهم في أتون الفتن، ولما لم يواجهُوا بما هم عليه من مقامرة وتهور فتحوا على أمنهم ثغرات اتسعت على الراقع وفتحت شهية الطامعين ويسرت لهم الوصول إلى محارم الأمة وحرماتها.

وعلينا لكي نستبين الرشد أن ننظر إلى عدد من الملفات الساخنة، كيف أتت ومن أين أتت ومن يتولى كبرها، وهي ملفات مبعثرة الأوراق في العراق والسودان والصومال واليمن ولبنان وفلسطين، ولم يمس المجاور المعتزل دخنها وحسب بل امتد لهبها، وها هي المملكة بكل حياديتها وجنوحها للسلام ورأبها للصدع وبذلها للمساعدات تُجرُّ قدمُها لتكون مرغمة طرفاً في المغامرات المجنونة، إنها لعب قذرة يمارسها من لا خلاق له.

ومهما حاول الغافلون والمغفلون التعذير أو التبرير فإنهم لن يستطيعوا حجب المجازفات التي جرَّت المنطقة إلى بؤر التوتر، وكم يود الإنسان السوي تفادي المخاطر دون تعريض المحرضين والمتآمرين والمواطئين للمفسدين للدمار المرتقب لمثل هذه التعديات المكشوفة، إذ هم في النهاية شرذمة قليلة تعبث بمقدرات إسلامية وشعوب مسلوبة الإرادة، وتعرض بعض دول المنطقة لضربات استباقية أو تأديبية متوقعة، بوصفها من المغامرات المضادة والاضطرارية سيكون لها آثارها السيئة على المنطقة ولسنا بحاجة إلى استذكار ما تعانيه المنطقة العربية بسبب ممارسات غير مسؤولة جرت الخسارة للمنطقة كافة لأنها في النهاية فتن لا تصيب الذين ظلموا خاصة، وليس بود عاقل أن تحسم مشاكل المنطقة بما هو أنكى، وما تفعله (إيران) في مشرقنا العربي لا يختلف كثيراً عما اقترفته الرعونة العربية، فهل تظل مصائر عالمنا العربي مرتهنة للمغامرات الطائشة والمجازفات المجنونة؟ أم أنَّ نِداءات الوسطية والتسامح وحوار الأديان ستأخذ طريقها لتحل محل الاهتياج الأعزل.

لقد آن الأوان لجمع الكلمة ومواجهة الواقع المأزوم بعزمات متآزرة تدفع الشر ولا تطلبه وتصد الاعتداء ولا تبادله، ونبراس كل متحرك في سبيل الحق المقولة الراشدة: (لا خيار إلا الانتصار أو الشهادة).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد