أصدر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله أمره بتشكيل لجنة من كبار المسؤولين يرأسها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة وعضوية مسؤولين في القطاعات القضائية والرقابية والأمنية والفنية
لغرض دراسة كارثة محافظة جدة، تلك الكارثة التي وصفت بالفاجعة وهي بحق فاجعة وحقيقية راح ضحيتها ما يزيد على مئة شهيد بإذن الله، وقد بدا تأثر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله من هول المأساة وثقل المسؤولية، ولكن الأمانة وصعوبة الموقف اقتضت الشجاعة التي تحلى بها- يحفظه الله- في إصدار أمره بتشكيل هذه اللجنة، أعتقد أن هذه اللجنة قد حملت مسؤولية عظيمة تتلخص في موضوعين أساسيين: تحديد الأسباب التي أدت إلى هذه الفاجعة والإشارة بأصابع الاتهام إلى من تسبب بها، هذا موضوع، الموضوع الثاني هو معالجة الوضع ووضع الحلول المناسبة والحرص على عدم تكررها مرة أخرى، ولي وقفات مع الكارثة وتشكيل اللجنة:
الوقفة الأولى: الموقف الشجاع لخادم الحرمين الشريفين في محاسبة المقصرين في أداء الأمانة، وإهمال المصلحة العامة، عن قصد ولمصالح شخصية، أو عن غير قصد، فمن ولي عملاً فهو مسؤول أمام الله أولاً ثم أمام ولاة الأمر والمواطنين، ومن يتم اختياره لحمل هذه الأمانة عليه أن يستشعر ثقلها والمسؤولية التي ألقيت على كاهله، ويعمل جاهداً على أن يكون أهلاً لما كلف به من عمل - وأهم من هذا أن يكون على يقين بأنه محاسب يوماً ما على تقصيره إن قصر واستهان بعمله، هذا مبدأ لو ترسخ في أذهان كل من يتطلع إلى منصب وتهفو نفسه إليه، وأن المنصب بحق تكلف وليس تشريفاً، لو عرف كل منا هذا المبدأ وتبناه في حياته لأصبح الوضع مختلفاً ولاستقامت الأمور، ولن نحتاج إلى من يراقبنا أو يحثنا على الإخلاص في العمل، فالله سبحانه وتعالى يراقب ولا تخفى عليه خافية..?يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ?.
أعتقد أن خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله بتشكيله لهذه اللجنة قد وضع أساس المحاسبة والمتابعة وحتى معاقبة من يخل بالأمانة، ليس فيما حصل في جدة حصراً وإنما في نواحٍ كثيرة من نواحي الحياة سواء في التعليم أو الصحة أو الشؤون الاجتماعية وغيرها.
الوقفة الثانية: هي عن اللجنة التي شكلها خادم الحرمين الشريفين، فمعرفة أسباب الكارثة ممكن وسهل، ولكن تحديد المسؤولية قد لا تكون بالسهولة نفسها وربما في غاية الصعوبة لأن الأمر يتعدى المسؤولين الذين على رأس العمل في هذا الوقت إلى أناس قبلهم ولعقود عديدة سابقة، فمن وضع المخططات السكنية ومن أجاز المخططات في أماكن الوديان والمنحدرات ومن باعها، ومن وصّل إليها الخدمات، ومن أجل مشاريع تصريف السيول أو صرفها في غير موضعها ومن أهمل في التنفيذ من المقاولين ومن تابع هذه المشاريع وأشرف عليها ورضي بأنصاف الحلول، وغيرهم الكثير من المسؤولين في الجهات الحكومية، ومَن وكل إليهم الأمر كلهم يتحملون مسؤولية ما حدث، ومن هنا تبرز صعوبة العمل الذي كلفت به اللجنة، وأقول أعانها الله وكلل مساعيها بالنجاح وجنبهم مزالق الخطأ ووفقهم للصواب والحرص والاجتهاد وتوخي الحذر، فخيرٌ لهذه اللجنة أن تخطئ في المسامحة من أن تخطئ في العقاب نظراً إلى تجذر المشكلة وتشعبها وصعوبة الإلمام بجميع أطرافها، وكل مخلص يدعو الله إلى هذه اللجنة بالعون والتوفيق.
الوقفة الثالثة: هي في وضع الحلول المناسبة للمشكلة، وهذه في نظري ليست في صعوبة تحديد المسؤولية، ولكنها دون شك تستدعي الاستعانة بالله أولاً، ثم بالعديد من المهندسين وذوي الخبرة في تصميم أو إعادة تصميم شبكة تصريف مياه السيول وتخليص المدينة من أضرارها على غرار ما هو موجود في كثيرٍ من مدن العالم التي يسقط عليها سنوياً أضعاف ما يسقط على مدن المملكة من السيول، ومع ذلك هناك التصريف المصمم بكفاءة، بحيث لا تجد تجمعات بسيطة من الماء، وكما أشار خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله يحدث هذا في مدن لدول ليس لديها ما لدى المملكة من إمكانات مادية وفنية.
الوقفة الرابعة: هي في عدم وجود استراتيجيات واضحة لمعالجة الكوارث قبل حصولها وتقليل أخطارها، بمعنى أننا نعالج المشكلة بعد حدوثها لكن ليس لدينا إجراءات وقائية تمنع الحدث أو على الأقل تجعل آثارها السلبية أقل ما يمكن، ولعل ما حصل ينبه المسؤولين إلى تحسين أوضاع تصرف السيول، فمن المشاهد المألوفة أنه بعد هطول الأمطار تنتشر الصهاريج لسحب المياه التي تجمعت في مناطق منخفضة عطلت حركة المرور في هذه الأماكن على الرغم من وجود مشاريع لتصريف السيول، ومع ذلك تتجمع المياه بكميات كبيرة تعيق الحركة المرورية وتعطل أعمال الناس في أنشطتهم اليومية.
هناك ملاحظة على بعض المختصين الذين عزوا ما حصل من أضرار مياه السيول على جدة إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، وإذا كانت هذه الظاهرة وآثارها السلبية من ارتفاع منسوب مياه البحار حقيقة معروفة مع الاختلاف في مدى أضرارها إلا أن غرق مدينة جدة، إن صح التعبير من الصعوبة إرجاعه إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، نظراً إلى حصرية ما حصل، حيث لم تشمل مناطق مشابهة لحالة جدة ومستوى ارتفاعها عن سطح البحر أي أنه لو كانت المشكلة شاملة لكثير من المناطق المشابهة لجدة على الأقل على سطح البحر الأحمر لربما كان التفسير بما حصل بأنه نتيجة للاحتباس الحراري صحيحاً، ولعل اللجنة الموقرة لا تلتفت إلى هذا التفسير حتى لا تتشتت جهودها، فالاحتباس الحراري ظاهرة عالمية تحتاج إلى حلول جذرية وبخاصة من الدول الصناعية لتقليل انبعاث أبخرة المصانع إلى طبقات الجو وتشكيل طبقة عازلة لا تسمح لأي أشعة مرتدة من الأرض باحتراقها، وبذلك ترتفع تدريجياً حرارة الأرض.
يؤدي إلى ذوبان المناطق الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي، وبالتالي ارتفاع منسوب البحار وإلى الحد الذي يغرق كثيراً من المدن الساحلية.
ما حصل في جدة ليس من ذلك النوع وإنما ببساطة سيول انحدرت من المرتفعات لم تجد التصريف المناسب، فارتدت إلى مناطق السكان فأغرقتها.
حفظ الله خادم الحرمين الشريفين على موقفه الشجاع في محاسبة كل من يقصر في عمله ويخل بالمسؤولية، وأعان الله اللجنة على أداء مهامها وتحقيق أهدافها والله ولي التوفيق.