قال أبو عبدالرحمن: البَذْرة الثانية التي هي خَميرة سريالية تفسيرهم باعث مذهبهم العبثي العدمي بالقمع الذي ولَّدته الحرب العالمية الأولى، وآليةُ الغرب في مخترعاته.. وهذا قمع سياسي، ولقد كذبوا في هذا التعليل؛ لأنه لا يوجد في مأثورهم شجاعة على مواجهة
قمعٍ سياسي، وإنما ثاروا على العقل والدين والأخلاق وَبِنْية المجتمع وفطرته وكيانه. والملاحظ أن معاني السريالية ليست صادرة عن المعنى اللغوي للسريالية؛ وإنما هي تراكمٌ أو ضُمورٌ وَفق ما تُضيفه أو تُسقطُه بيانات المُجَمَّعات السريالية.. وهَذْرُها لا يُحقِّق واقعاً أبداً؛ لأنهم بعد جنونهم العبثي في زعمهم القدرة على تحطيم الثوابت جعلوا البديل: (الحقيقة الراقية)؛ ولهذا فسَّر (أندريه لالاند) السريالية بما فوق الواقعية(1)، وهذا هدف نبيل لو صدقوا يقرب من المُثل الأفلاطونية، وسعادة المدن الفاضلة عند مثل أفلاطون والفارابي، وهو أيضاً ممكن بتخيُّلِ عوالم راقيةٍ يُمليها الطموح وَفْق قيم الوجود الثلاث (الحق، والخير، والجمال)، ولكن الحقيقة الراقية عندهم كل ما أسلفته عنهم من غثيان.. وما فوق الواقعية له معنيان: أحدهما (المتعالي) عند مثل كانط وياسبرز.. يريدون به ربنا سبحانه العالي عن إدراك وسائل المعرفة، وفي هذا المعنى جمال لولا أن بعض الفلاسفة يلحن بذلك عن تعذُّر المعرفة بالله سبحانه !!.. وهذا المعنى ليس هو مراد السريالية.. وثانيهما إلغاء الواقع وتحطيمه بالعبث من أجل الوصول إلى واقع خفي؟!.. والبديل الآخر عندهم (اللعبة النزيهة للفكر بفاعلية الحُلْم) واللعبة مقبولة لو حَسُن القصْد؛ لأنها قد تكون مهارة؛ ولهذا قيل لأبي براء عامر بن مالك الكِلابي العامري (مُلاعب الأسنة) -وهو عمُّ عامر بن الطفيل-؛ لمهارته في الحرب.. قال أوس بن حجر عن نتيجة هذه المهارة:
فلاعَبَ أطرافَ الأسنةِ عامِرٌ
فراح له حظ الكتيبة أجمعُ (2)
فهل أرادوا لعبة مشكورة تُظْهر قدرةَ الحُلْمِ بواسطة الخيال على إبداع أدب أو فنٍّ جميل بعنصري الكمال والجمال ؟!.. كلا.. إنما أرادوا لعبةَ ضحكٍ واستهزاء بعقول وأديان وكيان الحُواة.
ومن البذور العفنة خليط: (ترابط الأفكار (الأخْيلة)، والحُلْم، والتنويم المغناطيسي، والشرود العقلي؛ لتظهر قُدرات المقموع المبخوس كالخيال والإحساس الباطني).. ويا ليتهم أضافوا خيالات السكارى الطافحين الذين يتمزَّقُون ضحكاً من نكتةٍ باردة، أو نسيم يحرِّك الباب، أو قِطَّةٍ تعبر لها مُواء ؟!.. ويا ليتهم أضافوا خيالات المجانين الذين يبولون على أنفسهم ؟!.. ولكن أهل الزكاء من أمتنا تصيَّدوا ماهو سَوِيٌّ لدى المجانين فألَّفوا (عقلاء المجانين)، وليت هذا العملَ يُكملُ بجنون العقلاء !.
قال أبو عبدالرحمن: الخيال والوعي بالحس الباطني لا يُعَطِّله إلا بلادة سببها غياب العقل لاحضوره.. ويأتي إبداع الخيال عفوياً تلقائياً؛ لكثرة مذخور الموهوب من الصُّور في الذاكرة، ولكن العقل في النهاية هو الذي يشهد لنجاح التلقائية بالتحليل من القِيم الثلاث التي أسلفتها.. وليس عند السرياليين ترابط أخيلة؛ لتغييبهم العقل في هذرهم اللساني؛ وإنما عندهم تنافر ونشاز، وأما أن هناك لا وعيَ (3) أو لا شعورَ يكون وعياً وشعوراً بغياب العقل فذلك دعوى رخيصة، وقد أسلفت ما يُعقل معناه من اللا شعور، وأُضيف هنا أن غياب العقل عَماءٌ لا يحصل منه شعور.. وليس الأمر كما خُدِعتُ به من قول (جون لوك) وبعض علماء المسلمين كالإمام ابن تيمية رحم الله ابن تيمية): (العقل صفحة بيضاء ينقش فيها الحس معارفه)، بل الصواب (العقل مَلَكات متوقِّدة، والذاكرة صفحة بيضاء ينقش فيها العقل معارفه)؛ لأنه لا صورة مَعْرَفِيَّة للمحسوس إلا بحضور العقل الذي يُمَيِّز بالفوارق، ويقارب ويُوازن بالعلاقات.
وأراهن على أن السريالية بكل الأفكار التي نُقلت عنها، أو عبر عنها المنتسبون للسريالية -مما اطلعت عليه- لا يمكن أبداً أن تكون مدرسة أدبية ذات نموذج إبداعي إلا بالشرط الذي ذكرته في مثل مسألة السندباد.. ولعله يكفي لتصحيح ما قلته ما مضى من أمثلة من دعاوى؛ فالمثال شارح لا حاصر، ويكفي من الأمثلة ما أظهر التصوُّر.. وههنا مثال آخر أُرْدف به ما ذكره الدكتور جميل نصيف التكريتي عن الرمزية (وهي مما استعارت منه دعاوى السريالية) نقلاً عن (هاوزر).. قال: (مهمة الشعر) يعني عند الرمزيين) هي التعبيرُ عن شيء لا يمكن صياغته في قالب مُحَدَّد، ولا يمكن الاقتراب منه بطريق مباشر).. ثم أردفوا ببادرة الكلمة، وفسروا معنى البادرة، ومعنى الاستسلام لها: بالانقياد لتيار اللغة، وللتعاقب التلقائي للصور والرؤى؛ لأن اللغة أكثر شاعرية من العقل) (!!!).
قال أبو عبدالرحمن: العدلُ حبيب الله؛ فلهذا أعترف مسبقاً بأن الرمزية ذات نعمة جمالاً وسعةَ تعبيرٍ على الأدب الحديث.. ولكن هذه النعمة المنظورة ليست هي هذا الأمر المحال الذي نقله التكريتي عن الرمزيين، وقبل دحض هذا المحال الكاذب أقدم نموذجاً من العدل الذي هو حبيب الله، فقد ذكرت في أحد كتبي الأدبية نماذج رمزية تحقق الجمال وإثراء اللغة، ومما ذكرته قول البياتي في قصيدته (سوق القرية) ضمن ديوانه (أباريق مهشمة).. منها مثلاً:
(الشمسُ والحمر الهزيلة والذباب.
وحذاء جندي قديم.
تَداولُ الأيدي وفلاح يُحدِّق في الفراغ:
(في مطلع العام الجديد.
يداي تمتلآن حتماً بالنقود.
وسأشتري هذا الحذاء).
وصياحُ ديكٍ فرَّ من قفص.. وقدِّيس صغير:
(ما حك جِلْدَك مثلُ ظفرِك)
و: (الطريق إلى الجحيم
من جنة الفردوس أقرب)).
قال أبو عبدالرحمن: فهذا النموذج الرمزي لو تذوَّقه المحنَّطون المتخثِّرون في نصوص جمالية تاريخية مسح جمالها ملل التكرار والعيش على نمط واحد: لأثروا جمالهم الأدبي بنماذج حداثية إبداعية قد تكون أفضل من إبداع البياتي.. فأيَّ نِعَمٌ ههنا؟!.
أقول لكم: لم يعبر البياتي بلغة مركبة مباشرة عن بؤس القرية، وفقر أهلها.. ولو فَعَل لكان مُؤرخاً، ولغة المؤرخ مباشرة، ولكنه ارتقى إلى أسْمى تعبير جمالي وهو الإيحاء، فبدل أن يقول: (إن القرية فقيرة، وإن سوق الجَلْب شديد القذارة، وإن أهل القرية بؤساء متعبون): ترك الأعيان تتحدث بدلالة الحال؛ ليرتاح التعبير اللغوي المباشر، وليكون المُتَلقِّي شاهد عيان، وليس راءٍ كَمَنْ قد سمعا !.. نثر لك أعياناً متناثرة توحي لك بدلالة الحال، فاقتران شمس صاهرة، وحمر هزيلة، وذباب، وبضاعة نموذجها حذاء جندي قديم، وفلاح ضاع فكره في الفضاء (الفراغ) يفكر في حينونة وقت واعد يشتري به الحذاء القديم.. هذه الأعيان أي شيء تبديه لك غير ما تراه منها؟!.. إن أهل القرية متعبون متثائبون كمَن صهرتهم الشمس بحرارتها، ومصاحبة الذباب للحمر الهزيلة تذكير بارتباط الذباب بما هو قذر.. والفلاح دخل سوق الجلب في الهجير المحرق ليس عنده رزق يجلبه، وإنما دخل السوق خالي اليد، وأعجبته البضاعة الجديدة بالنسبة له، وهي حذاء جندي قديم، وهو غير قادر على شراء هذا الحذاء، ولكن حُلْمه أوسع من الفضاء (الفراغ) الذي يحدق فيه، وينتهي الحلم بأنه سيأتي يوم تمتلئ يده بالنقود فيشري الحذاء.. إذن سيظل الحذاء القديم في سوق الجلب حتى يتحقق الحلم !.. والرمز لليافع وإن تعدى مرحلة الطفولة بالقديس تعبير عن السذاجة التي هي طهارة مواهب اليافع وطموحه من أدران الجشع؛ لأنه لا يتحدث إلا بما تلقَّاه في مدرسته من حِكَم أوَّلية مستهلكة؛ فهو لا يحلم بالديك الذي فر من القفص إلا بتعب منه في الكدح بمدلول الحكمة: (ما حكَّ جلدك مثل ظفرك).. ثم يخذله الحوار النفسي الداخلي بالإحباط؛ لأنه لن يملك الديك ولو حك جلده بظفره: (طريق الجحيم أقرب إليه من طريق الفردوس)؛ ففي الحكمة التي يرددها القديس مقترنةً بحُلْمه، ثم الإحباط في الحوار الداخلي أكثر من دلالة حالية: ههنا الوعي الثقافي المحدود بِحِكَمٍ أكل عليها الدهر وشرب، وهنا طموح محدود بتملُّك ديك فرَّ من قفص، وهنا فقر مدقع من أعيان الديك والحذاء.. إلخ.. وليس في القرية قادر على الشراء؛ لهذا صارت الشمس قبيل قائمة الظهيرة (حينما تَرْمِضُ الفِصال كما في الحديث الشريف) قدراً لأهل القرية كل يوم، ولم يأت ذو نقود يشتري؛ ففرَّ الديك من القفص؛ لأنه يريد ماءً وحَباً.. وأيُّ انتظار يُرْتَجى بعد الهجير إلا خمول أهل القرية؟!.
وأكتفي بالمقطع القصير الذي أسلفته من قصيدة البياتي، وقد أنتج اقتران الأعيان في الزمان والمكان كل هذه المعاني.. والرمز لمحة، ولكن الذي عندنا ههنا لوحة فيها أكثر من رمز؛ فجاءت هذه الدلالات الخصيبة من مقطع قصير بتعبير جمالي هو الإيحاء.. واللغة قادرة على التعبير عن ذلك بأداء فصيح، ولكن سيكون الأداء مباشراً بغير إيحاء.. وفي معاركي السابقة مع الحداثيين والتراثيين معاً قال لي أحد دكاترة التراث: (أي جديد في هذا ؟.. هذه هي الكناية المعروفة في بلاغة العرب).
ولسوء حظي عجزتُ أن أجد منفذاً إلى فكره لبيان الفرق بين الكناية وبين تعبير الطبيعيين التصوريين.. إن الكناية لمحة مثل: (ليس للفأر في بيتنا مَقيل)، والدلالة على الفقر في هذه الكناية دلالة لغوية مباشرة إلا أنها لزومية؛ لأنه لو كان في البيت رزق ما فارقه الفأر.. وليس كذلك (سوق القرية)؛ فالدلالة ليست دلالة رمز أو كناية عابرة؛ وإنما هي دلالة لوحة ذات رموز.. وأحد المعاني مثل إفلاس كل أهل القرية وعجز أي واحد منهم أن يشتري شيئاً من البضاعة الأسمال ليس دلالة لغوية مباشرة من لزوم لفظ الكناية؛ لأن الكناية جاءت بحال الأعيان في المكان لا بمقال من الشاعر؛ إذن هو هو دلالة أعيان ذات علاقات في الزمان والمكان انتهت بالهجير الذي لا شيىء بعده إلا الراحة، وكل بضاعة عتيقة في السوق بقيت كما هي إلا أن الديك ذو حركة وليس جماداً، فحاول الفرار من القفص؛ لأن حظه عجز عن إدراك متملِّك يشتريه ويضعه في الظل عنده الحَبُّ والماء !.. هذا إثراء للغة، وهذا جمال في الأداء وإن أغضبت كل التراثيين !!.. ولكنْ هذه النعمةُ الأدبية الجمالية هل كانت وَفْق المحالات التي نقلها التكريتي عن الرمزيين ؟!.. لننظر بالمقارنة.. عند الرمزيين أن مهمة الشعر التعبيرُ عن شيىء لا يمكن صياغته في قالب محدد.. ونحن نجد (سوق القرية) يمكن أن يصاغ في قالب لغوي محدد، ولكنه لغة مباشرة لا لغة أدبية جمالية.. ويمكن أن يعبر عنه مجزَّءاً بالكنايات والاستعارات، ولكن ذلك لا يحقق مدلول لوحة البياتي؛ فالكناية والاستعارة نظام أدبي أصبح بكثرة الاستعمال عرفاً لغوياً؛ فإذا قلت عن رجل شجاع: (رأيت أسداً) تبادر معنى الشجاعة من المأثور الأدبي الذي أصبح عرفاً لغوياً بخلاف الصورة الجديدة التي تدهشك بملكة الخيال لا بسذاجة نقل المأثور كتعبير بودلير عن الحب بالشمس الحمراء.. وفي وسائل التعبير الأدبي من الكناية والاستعارة تستنبط الإيحاء الأدبي من المدلول اللغوي بخلاف لوحة البياتي فإنك تستنبط العبارة الدالة من الصور في اللوحة مجزَّأة ومؤلفة؛ إذن الرمزية لا تعبر عن شيء لا يمكن صياغته في قالب لغوي محدد؛ فهذا ممكن سهل؛ وإنما تريح دلالة اللغة المباشِرة بإيحاءات رمزية، وهي إيحاءات يَعجز التعبيرُ الأدبي أن يجعل المراد الكثير منها لوحة منظورة؛ وإنما القدرة بعد الله للشاعر الحداثي الذي وُفِّق في نثر الأعيان بعلاقات اجتماعية ونفسية وزمانية ومكانية حتى ألف لوحة تُملي على المتحدث لغةً مباشرة تتحدث عن دلالات كثيرة في اللوحة؛ فالفضل لإبداع اللوحة التي تفهم مدلولها بإحساس جمالي معرفي، وتتيح للعاديين فهمها بما تتكفل به من إملاء لغة مباشرة يُوَصِّلها الناقد والدارس إلى الجمهور الخامل؛ إذن انتهت دعوى (التعبير عن شيء لا يمكن صياغته)، فلنتناول الدعوى الثانية: (اللغة أكثر شاعرية من العقل) فهذه الكلمة كقول المعاند: 2+2= 7.. فمن ناحية التنظير العام نجد اللغة أصواتاً لا دلالة لها إلا بالطبع مما يراه الحس أو يلمسه من هيئة مخرج الصوت مكاناً وشدة ورخاء وهمساً وصفيراً وتأوهاً.. إلخ، وهذه الدلالة الطبيعية ليست هي المسمى لغة؛ وإنما اللغة عرف تاريخي في الماضي، وحضور عرف في الآن, واستشراف لعرف في المستقبل، ولا يستطيع أحد أن يضبط دلالة اللغة وفق تلك الأعراف إلا بواسطة العقل؛ لأن معنى اللغة إذا لم يكن مسماه أو موصوفه كله ذا صورة في العقل، أو مركباً من أجزاء صور في العقل فلا يمكن أن يدل على شيء؛ لأن اللغة توصيل ما في تصوري إلى تصوُّرك إما بالتذكير إن كان في مشاهدتك، وإما بالتقريب بالوصف من أشياء في مشاهدتك، ولقد مضى كلام عن مثل (عنقاء مُغْرِب) فلا يعهد لها العقل صورة من الطبيعة كصورة البقرة المجرَّدة من مشاهدة آلاف من البقر، ولكن ملكة الخيال تأخذ من صور المحسوسات الجزئية كقباحة القرد، ومخالب العقاب، وفحيح الثعبان، وشعر منفوش لامرأة مجنونة.. إلخ.. إلخ؛ فيركَّب من هذه الأجزاء ما يتصوَّر العقل كليته وإن لم يعهد هذه الكلية في الواقع، فكفى في التصور الذهني وجود صور كل الأجزاء في ذاكرة العقل ملتقطة من المشاهدة.. وليس بمقدور أحد أن يُعْطيك معنى لفظ ليس مسماه أو موصوفه أو أجزاؤهما ذا صورة في الواقع.. إن معرفتك بغير المحسوس لا تأتي إلا من خلال معرفتك بشيىء محسوس ظاهر.. هذه واحدة في التنظير العام، والثانية أن العقل هو الذي يُنظِّم دلالة اللفظ على المعنى من الأعراف اللغوية، وحضور العقل شرط؛ لأنه يودع الذاكرة دلالة اللفظ بحكمِ حركات إعرابه، وبحكمِ حركات اللفظ غير الحرف الأخير الذي يُجري عليه الإعراب, وبحكمِ دلالة صيغته (الوزن)، ويميز بين المعاني الكثيرة للفظ الواحد بحكم ما في الذاكرة من كلام مركب يلائمه معنى دون معنى؛ فالعين التي هي الذهب لها ميزة في ذاكرة العقل أنه لا يُغتسل منها، ولا يشرب منها؛ فلا يُؤخذ من (شربت من العين) دلالة على الذهب، بل الذي في وعي العقل أن الذي يشرب منه عين الماء.. والمسميات والأوصاف التي دل عليها اللفظ لها هويات كُلِّية موجودة في ذاكرة العقل, وكل هوية لها اقتران بالهُوِيَّات الأخرى باتصال علاقات وانفصال فوارق؛ فالعقل حافظ للمعاني وأجزائها، وهيئة دلالتها في تركيب الكلام، مميز لها بالفوارق التي جرَّدها العقل، مقارب بينها بالعلاقات التي جردها أيضاً؛ إذن اللغة صامتة لا تعني شيئاً إلا بحضور العقل وملكاته على النحو الذي أسلفته، وهذا معنى ارتباط اللغة بالفكر في الدراسات اللغوية.. والعقل في خبرته باللغة، وتنظيمه لها يَسْترفد ملكته الخيالية في إنتاج دلالة أدبية بالإيحاء تختلف عن الدلالة اللغوية المباشرة، ولكنها مشتقة منها؛ فكيف تكون اللغة أكثر شاعرية من العقل -والمراد بشاعريتها التعبير إيحاء لا مباشرة- والعقل هو الذي منحها شاعرية الإيحاء، والعقل هو الذي جعلها ناطقة لا صامتة ؟!!!.. وعجبي من الحواة كيف يرفضون دعوى 2+2= 7 ويقبلون مثل دعوى أن اللغة أكثر شاعرية من العقل بينما النتيجة واحدة هي المحال ؟!.. فإذا تركنا التنظير العام ورجعنا للواقع العملي عن شاعرية اللغة فإننا نرجع للنموذج الرمزي الشاعري الذي أوردته آنفاً من أول نص (سوق القرية) فلا نجد للغة هنا أي تعبير؛ لأن نص القصيدة لم يقل لنا إن القرية فقيرة، وأنه ليس لها سوق إيراد أو تصدير، وأن أهلها في خمول وفقر وإحباط كإحباط القدسي الصغير.. إلخ.. إن الشاعرية للعقل لا للغة، لأن الخيال الذي هو أحد ملكات العقل هو الذي جعل الرموز الجزئية ذات إيحاء بمعنى كلي.. واللغة نقلته لنا من دلالة حال الأعيان في المكان والزمان، ولم تنقل لنا المعاني في القصيدة؛ وإنما نُقلت -بصيغة الفعل المبني على الفاعل المجهول- لنا المعاني باللغة المباشرة على لسان الناقد أو الدارس بعد وجود النص الإبداعي بإيحائه.. أي أن اللغة لم توجد إلا إيحاء، وإنما نَقَلَتْهُ مباشرة بعد وجوده على لسان الناقد؛ إذن الرمز ليس خصِّيصة سريالية، ومع هذا فليس الرمز من أدب اللامعقول في شيىء، بل هو تنظيم عقلي من دلالة اللغة إن كان الرمز من ذات اللغة كالاستعارة البِكْر، والكناية البكر.. وهو إبداع خيالي مُشْتَقٌّ من الحس إن كانت الدلالةُ دلالةَ حال في الأعيان؛ فتكون الدلالة من المسمَّى أو الموصوف لا من الاسم أو الوصف.. ومهما أبعد الخيال وجنَّح فهو لا يطير إلا في فضاء الواقع وأرضيته؛ لأن الدلالة الكلية في سوق القرية تأتَّتْ من دلالات جزئية معهودة في الواقع، فسوق الجلب الذي أدركه حرُّ الهجير وبضاعته كما هي، والفلاح الذي يحلم بشراء حذاء جندي قديم، والقديس الصغير الذي انتفض عزماً وأخذ حكمة شيوخه (ما حك جلدك مثل ظفرك)، ثم تراجع بحوار نفسي داخلي إلى اليقين بأن طريق الجحيم إليه أقرب.. إلخ.. إلخ: كل هذا دال في الممارسة البشرية مما تشهد به الخِبْرة على معاني الفقر والبؤس والإحباط والعطالة من شاغلٍ جاد؛ فإذا أعطى الخيال هذه الأعيان حرية التعبير بالإيحاء فذلك دلالة حال محفوظة من الخبرة؛ وإذن فلم يَفْتَرِ العقل على الواقع، ولم يفترض في الأعيان دلالة ليست فيها؛ وإنما روعته في المواءمة بين هذه الأعيان وعلاقاتها الزمانية والمكانية والاجتماعية لتنتج دلالة لوحة، وليس كل أحد يقدر على تنظيم هذه الوقائع الحسية لتنتج لوحة مشاهدة ذات دلالات؛ وإنما ذلك للخيال الموهوب الجوَّاب.
ومن العبث بالعقول مضغُ كلامٍ لا يُفهم منه شيء كقول السرياليين في بيانهم الأول: (إن العيش أو الموت هما حَلاَّن خياليان، أما الوجود فهو في مكان آخر)!!.
قال أبو عبدالرحمن: حلٌّ لماذا، وهل الإنسان يملك العيش، وأي وجود يعني، وأين المكان الآخر ؟!.. إنما يحلو تحوير هذه الجملة بقول المؤمن بالله: (العيش وهو عمر مؤقت مزرعة لما بعد الموت، وأما العمر الأبدي فإنما هو بعد البعث).
ومن أقوالهم الهاملة: (إن القوة الكبرى للرغبة)، والرغبة مفهومة المعنى، ومعناها يرادف بعض معاني الإرادة، ولكنهم لا يفسرونها بأمرٍ اصطلحوا عليه، وإنما سلكوا في نِثار فلسفتهم تفسير الرغبة بما هو مُنْتِنٌ كالجنس الداعر، وأما العقلاء فيقولون: (القوة الكبرى إنما هي للأهلية والعزيمة لا لمطلق الرغبة التي قد تكون مُدَمِّرة)، وأما الرغبة فإضمار أُمْنِية لا غير.. ثم تكلموا عن الرغبة بجملة متناقِضة المفردات؛ فسَمَّوها (الوضوح الأعمى للرغبة) !!.. أيْ مُحَمَّلة بقذارة الجنس، وتوسلوا بكلمات تزيين وتسويل ومعانٍ إنسانية مثل: الدموع، والحبِّ، والقُبَل، والتنُّهد، والتمرد.. وهم يقرنون بالحبِّ الحريةَ والمصادفة (4)، ويقيِّدون الحب بأوصاف مثل (الحب المجنون).. أي بشرط أي يكون عارماً غامراً بدعوى علاقة حميمة بين الإحساس الشعري الباعث على شهوة الإبداع وبين حُمَياً الرغبة الجنسية؛ ولهذا يتسلَّلون تسلَّل الوسواس الخناس في تقلُّبهم؛ فبينما هم يُغرون بما فوق الواقع نجدهم يحدِّدون هذا الفوق باتخاذ اللذة باعثاً للإبداع لا البحث عن الحقيقة.. على أن الفوقي والمتعالي ثَلْبٌ وتَعْيير في نقدية كانط وفي فلسفة الحسبانيين؛ فما فوق الواقع إذن ليس هو الأمكن وقوعاً، بل هو الأبعد لمجرد احتماله؛ فهو تحليق في جو الخيال لم يَرْسُ على أرضية الواقع بزعمهم.. وأنا أعلم أن المجاز غير سديد في الأعمال الفكرية، ولكن ما حيلتي ما دامت عباراتهم مبهمة وليست مجرد مجازية.. ومن هنا نُطِلُّ على الحرية التي يتغنون بها؛ فإذا هي إلغاءُ حريةِ المجتمع في حراسة قِيَمة، ثم نطلُّ على التمرد فإذا هو لخدمة الشهوة الجنسية التي أبهموها في مفردة (الغربة).
وأما المنطق البرهاني لإشاعة الحب القذر فاقرؤوه في هذا الكلام الادَّعائي المرفوض في العقول والأديان والأخلاق قبل تسويق الصهيونية الخبالَ للعقل البشري كما سوَّقت الإلحاد والإباحية.. إلخ: (أغوار الرغبة الجنسية مفروضة ومقبولة اجتماعياً؛ ليصل البشر بذوبان أجسادهم إلى الأبدية أو الاستمرارية)؛ فبربكم أي قيمة تشهد لهذا التخريب غير قِيم الباطل والشر والقبح، وأي فلاح في استمرار الجنس غير المنضبط بالزواج وحقوقه المالية والمعنوية ؟!.. ومن ههنا جاء التمجيد الكاذب للمرأة المهانة برغبات جنسية غيرِ مُقَنَّنة تحفظ حقوق الزوجين، وسلامة النسل، وطهارة العرق.. والمرأة صنفان: المرأة الساحرة، والمرأة الطفل؛ لأنها واعدة بثراء جنسي، واسترحلوا معنىً حميداً للمرأة الطفل هو (البراءة)؛ فوصفوا المرأة بالمنوِّرة المنيرة، وهي تكشف للرجل نفسه، وتُظهر له أسرار العالم، وهي تمثل كل الحقيقي (نعم بمعنى ما فوق الواقع السَّوِي من عفن الشهوة)، وهي الطبيعة !!.. ورجائي كرجاء من يتمنَّى وجود بيضة العنقاء أن أجد مَن يُظهر لي من تجارب البشرية ولو امرأة واحدة بهذه الصفات التي بعضها مجازي غير محدَّد؛ وذلك هو المبهم، ولقد ظهر خبث توجُّهِهم المؤمَّمِ بلسان (أكزافيا رغوتيه) إذ قال: (الحرية الجنسية غير مطلوبة لذاتها، ولكنها سلاحٌ ضدَّ المجتمع الذي يمنع (من) تحقيق الحب المجنون).
ومن الميتافيزيقا بمعناها الرديىء ما نجده في هذيان السرياليين، فهم يتحولون من دعوى (اللاوعي) إلى دعوى (الأماكن المعتمة في الوعي)؛ إذن لدى النفس مقالات لا تتوقف، ولا عبرة بإنكار الذهن النقدي لذلك !.. وهكذا يبدؤون بالافتراض، ثم يجعلونه حقيقة، ثم يبنون عليه استشرافاً مستقبلياً له حكم اليقين عندهم؛ فهكذا يا عباد الله جعلوا الحقائق حسبانيةً عناداً، وافترضوا أوهاماً انتهوا منها إلى أعظم وثوقية قطعية !!؟.. وهذا الهوس عندهم معرفة فوقية؛ لأن الخيال يُوقظ الرغبات (الشهوات كشهوات الجنس، وشهوات التضليل التي هي بث الشبهات والتأصيل لها), وينزع الإنسان من فطرته السَّوِيَّة التي يعبرون عنها باستسلام الإنسان لعاداته، وهكذا أصبح السلوك الأعمى الطارىء نتيجة معرفة ذات قيمة من الحق!!.
قال أبو عبدالرحمن: أُكرِّر مراراً أن الأحلام تُغَذِّي ملكة الخيال بعوالم تُحقِّق قيمةَ الجمال المشكورة، ولكنَّ السرياليين لا يريدون ذلك.. أي لا يريدون إضافةً جمالية، وإنما يريدون بطبعٍ عدواني مُؤمَّمٍ مقاومةَ كلِّ ما هو برهاني وكياني.. إن الحلم مصدر إبداع، وليس كما يزعمون مصدراً لاكتشاف حدود الحقيقة التي هي ضبابية في الأدب ومبهمة في علم النفس !!.. وحدود الحقيقة ههنا هي سعة تحرير الإنسان من القيود الإيدلوجية.. يريدون بتلك القيود كل ما هو برهاني كياني.. والعمل الواعي للخيال في استثمار الحلم يجعلونه حلماً مرتين!!.. والحلم لا ينتهي بالاستيقاظ؛ فهو انثيال دائم؛ فهذا فتْحٌ لباب الهلوسة والانفصام لدى الحُواة، وأما المنظِّرون فهم على وعي بما يَعْتملونه من تضليل.. وتجد التناقض في عباراتهم؛ فإبحار الخيال عندهم يكون في مثل الحُلْم من أجل معرفة حدود الحقيقة، وهو تارة هروب من الواقع، واهتمام بالعالم الداخلي الذاتي والخارجي لا ليعرفوه، بل ليهدموه بباعث الرغبة (الشهوة العدوانية التخطيطية، وشهوة الحواة البهيمية).. وعندهم خلط وسوء فهمٍ متعمَّد لمعنى وحدة الفكر والمادة؛ فهم يزعمون أنهم وصلوا إلى وحدة الوجود من الإيغال في اللاوعي.
قال أبو عبدالرحمن: أين الثري من الثُّريا ؟!.. إن وحدة الفكر والمادة ليست هي وحدة الوجود المفتراة، وإنما هي مطابقة صورة المعروف في الفكر للمعروف في الخارج على الوضعية ومدى القوى التي حصلت بها المعرفة.
قال أبو عبدالرحمن: وأعود إلى العنصر الرابع والعشرين من عناصر السريالية:
24- في فلسفة الوجوديين أن الإنسان يصنع ماهيته، وقد أفضت في تفنيدها بكتابي (شيء من فلسفة ياسيرز)، وقد تبنَّى بعض السرياليين فلسفةً لا فَناً هذا الادِّعاء بأن الخيال يُلغي ثنائيات العقل والجنون والواقع والاستبهام والطفل والبالغ واليقظة والحلم.
قال أبو عبدالرحمن: ألا فليستذكر ذوو الحَصافة أمام هذه الوساوس الشيطانية الإنسية أن الخيال قادر على اختراع التأليف فقط من عناصر ما هو معروف.. وغير قادر ألبتة على إيجاد عنصر مُتَصَوَّرٍ ليس من أجزاء المعروفات أو علاقاتها أو فوارقها.. واجتماع الأضداد والنقائص كالطفل والبالغ غير موجود في المعروف؛ فهو مُحال التصوُّر، وعلى المكابر في ذلك أن يُظهره في كلام عادي -ولا نُكلِّفه بنص فني-؛ فيتصور العقل اجتماع الطفولة والبلوغ في آن واحد ؟!.
25- اسْتَحْلَوا واستباحوا قذارة الجنس (5) - وهذا شذوذ في مدارس أدبية كثيرة، وليس في السريالية وحدها -؛ وذلك بحجة أنها استهزاء فعليٌّ بالتخريب والرفض لما أنتج العدمية، وهو الواقع القمعي.. كما جعلوا هذه القذارة (وإن كانت عن شهوة فاسقة) استشرافاً لسعادة أبدية، ومعنى السعادة إرضاء الحواس (أي الإشباع الذي لا ينتهي للغرائز) مع أنه منتهٍ حتماً بضعف الشيخوخة حيث تكون العُنَّة.
26- من حماقاتهم: (العقل أسوأُ أعداء الفكر)؛ فيا إلهي هل التفكير منسوب إلى اليد أو الرجل أو اللسان ؟.. أليس الفكر عمل العقل ؟.. وإنما يريدون بالعقل ما هو معقول من الثوابت، وبالفكر الخيال بِقَيْد ما هو محال من الجمع بين النقائص والأضداد.. ويصفون العقل بالعاهِر, ويذكرون أن مطلب السريالي إنما هو المدهـش, وقد بيَّنت قيمة المدهش فيما سلف من كلامي عن العجيب.. ويصفون العقل بأنه (السجن الأكبر مقتاً)؛ لأنه غير قادر على فهم الواقع الخارجي.. يعنون المحال الخيالي.. والعقل عندهم وَقِحٌ هرم، شالٌّ مشلول، أحمق، يوسِّخ كل شيء بالاحتراس الواقعي ؟!!.. ويكفي في هذا الدلالةُ على أن السريالية مدرسة أدبية ادِّعاء مُسْتَرحَلة للتخريب.
27- السريالية بنت (الدادية)، وفي بيان الدادية: (دادا هي لا شيىء.. لا شيىء.. لا شيىء.. إنها مثل آمالكم لا شيىء.. مثل فردوسكم لا شيىء.. مثل مقدساتكم لا شيء (6).. مثل سياسييكم لا شيىء.. مثل أبطالكم لا شيىء.. مثل فنانيكم لا شيىء.. مثل أديانكم لا شيء.
اصْرفوا (7) بأسنانكم.. اصرخوا.. اركلوني على أسناني.. ثم ماذا ؟.. لن أكف عن أن أنعتكم بأنصاف الموهوبين (8).. بعد ثلاثة أشهر سوف نبيعكم أنا وأصدقائي صوراً ببضعة فرنكات)(9).. ومن هذا البيان اكتسبت (دادا) معنى الرفض والسخرية والعناد، ومَقولتهم الكبرى: (يسقط كل شيء: العقل، والمنطق، وكل النواميس البشرية (بل الربانية في كون ربنا الفسيح).. إن الحياة ليست سوى نكتة مريرة) (10).
قال أبو عبدالرحمن: هذا العبث في المضمون، وبالنواح الرومانسي هما اللذان كوَّنا هَذْر عبدالله القصيمي في كتبه الإلحادية بعد رِدَّته بعناد هدم بلا بناء، ونواح مفتعل، وتكرار مُمِلٌّ يُشَوِّه مُحيّا الرومانسية.
28- هذا نموذج خواجي من شعر الداديين المترجم لا تجد له معنى يُفهم، وناهيك بكونه معقولاً بعد فهمه؛ لأنه من الكتابة التلقائية من غير تفكير ولا هدف.. قال ريتشارد هولزنبك:
(هذا ما آلت إليه الأمور في هذا العالم.
البقر يتربع على عواميد التلغراف ويلعب الشطرنج.
الطير تحت تنورات الراقصة الأسبانية.
يغني بحزن مثل بواق مركز القيادة وعروة الجرس تنوح طوال النهار.
تلك هي حقول الخزامى التي كان السيد العمدة يتحدث عنها عندما فقد إحدى عينيه.
إن دائرة الإطفاء وحدها تستطيع طرد الكابوس من غرفة الاستقبال ولكن كل خراطيم المياه عاطلة.
آه !.. أجل يا سونيا: لقد اتخذ الجميع لعباً مصنوعة من السليلويد بدلاً من الأطفال.
وراحوا يهتفون: حرس الله الملك.
إن نادي الوحدانيين برمته يجتمع على ظهر باخرة (ماير بير) (11) بيد أن القبطان وحده له بعض إلمام بنغم دو.
إنني أسحب أطلس التشريح من أصابع رجلي.
وسرعان ما ستبدأ دراسة جادة.
هل رأيتم السمكة التي كانت واقفة أمام الأوبرا مقطعة الأوصال طوال اليومين الفائتين ؟.
آه آه أيتها الشياطين المخيفة.. آه آه يا مربي النحل وحفظة الوصايا العشر مع قوس هوس هوس!!.
مع بو وو الذي لا يعرف اليوم ما سطره أبونا هوميروس.
إنني أمسك بالسلم والحرب وأنا متَّشح بردائي الجامعي.
ولكني سأنقر ثمرة الكرز.
اليوم لا أحد يعرف فيما إذا كان غداً.
إنهم يضربون الزمن بكفن.
لو كان أحدهم يملك أعصاباً قوية لينتزع ريش الذنب من سيارة شاحنة.. إنه لعصر رائع.
إن أساتذة علم الحيوان يجتمعون في الحل.
وبأكفهم يستعيدون أقواس قزح.
والساحر العظيم يضع الطماطم على جبهته.
ومرة أخرى بتَّ تتردد إلى القلعة وتجوب الفيافي.
إن الظبي ليثغو والحصان يثب.
وهذا هو عالمنا وهذا كله سابق لأوانه).
ريتشارد هولزنبك) (12).
قال أبو عبدالرحمن: أي معنى جزئي مفهوم من هذا الجنون فهو من أدب الرمزيين، والرمز أسبق من دعاوى السريالية، أو تعبير لغوي جديد مثل ضرب الزمن بكفن، وكل ذلك دلالات جزئية.. ولتحمدوا الله على نعمة الإسلام وسلامة العقل اقرؤا هذا النص الشعري (؟؟!!) الدادي:
(ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و (واطيء)
بي بي بي بي بي.........
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و
زي زي زي زي زي.........
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و
وتزيكيت... بي... بي...
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و
آن زي...... آن زي......
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و
آ ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا (عادل)
بي بي بي بي بي.........
آ ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا
زي زي زي زي.........
آ ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا
رنزيكيت... بي... بي...
آ ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا
آن زي...... آن زي......
آ ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا اوووووووووووووووووووووو (واطيء)
بي بي بي بي بي.........
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و
زي زي زي زي.........
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و
رنزيكيت... بي... بي...
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و
آن زي...... آن زي......
ا و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و) (13)).
28- إجماع أهل التخصص قائم على أن اللغة توصيل المرسِل من صور وأحاسيسَ ومعرفة إلى المتلقِّي بمفرداتٍ وجملٍ متواضعٍ عليها بمعرفة من الطرفين؛ فإن كانت الصور والأحاسيس والمعارف من تجربة المتلقي تذكَّر المراد باللغة، وإن لم تكن في تجربته عرف قدراً بالوصف والتشبيه.. وقولهم: (اللغة عاجزة عن التوصيل) ذو مدلولين:
الأول: أن عدداً من المفردات في جمل مركبة لا يكفي؛ فقد لا يتم التوصيل إلا بصفحة أو صفحات.
الثاني: ما يستحيل تصوُّره باللغة ولا بأيِّ وسيلة بيانية؛ فلا يمكن أن يتصوَّره إلا مَن جَرَّبه إذا ذكَّرته بكلمتي (لذة الجماع) مثلاً.. وقد يستطيع علم الإنسانيات أن يصوِّر لذة الجماع بالتشريح والتشبيه المقارب.. وفي كل الأحوال فاللغة دالة على مسمَّى موجود، وأما السرياليين فقد شاركوا الوجوديين في العبث بدلالة اللغة، ولا يستطيعون أن يأتوا بالبديل.. اقرأ هذا النص: (الدائرة لا وجود لها كما لا يوجد ما يطلق عليه أسود أو منضدة أو بارد؛ فعلاقة هذه الكلمات بسياق استعمالها متغيِّر واعتباطي، والذي يوجد بدائي ولا اسم له.. يهرب من نظام العلاقات الذي نتخيل أنه يحتويه بدقة.. يهرب من اللغة والعلم؛ فهو يزيد ويختلف عما نصفه به) (14).
قال أبو عبدالرحمن: إذن لا معنى لهذا الكلام الذي يريد توصيله بلغة مفهومه؛ لأنه لا وجودَ لمعانٍ ومسمياتٍ؛ فهذه الحسبانية اللغوية تعادل حسبانية السرياليين في تحطيم ثنائية الموضوع والقصد إليه، وإلى لقاء، والله المستعان.
الهوامش:
(1) موسوعة لا لاند الفلسفية 3-1394(منشورات عويدات بببيروت - الطبعة الأولى عام 1996م بتعريب خليل أحمد خليل.
(2) انظر ديوانه ص 51 بتحقيق الدكتور عمر فاروق الطباع - شركة دار الأرقم ببيروت.
(3) قال أبو عبدالرحمن : أسلفت أن (اللاوعي) كلمة واحدة تخضع للإعراب خضوع المفردة؛ فيجوز أن تقول : (لاوعياً، ولاشعوراً) ولكنني اخترت مالا خلاف فيه.
(4) قال أبوعبدالرحمن: بعض الباحثين في السريالية يعبِّر بكلمة (صُدْفة)، وهو لحن شائع عند المعاصرين، فالصدفة اسمٌ للميلة، وفعلها (صَدَف)، والمصادفة اسم ومصدر لفعل (صادف) بمعنى وجده من غير قصد للبحث عنه.
(5) انظر نماذج لذلك بكتاب (رباعيات الإبداع والشذوذ/ جينيه، وجِيد، وبروست، ومان) للدكتور رمسيس عوض - وهو أخو الدكتور لويس عوض، ورمسيس جاد في الدفاع عن النصرانية ولا سيما الأرثوذكسية في مجمل كتبه عن العفن وفلسفات وأدبيات الغرب بخلاف أخيه لويس الماركسي - (سينا للنشر) الطبعة الأولى عام 1998م.
(6) قال أبو عبدالرحمن: أكثر المترجم من أدب الخواجات كلام مقطع؛ فالأفضل عدم العطف بالشولة (,)، بل تفصل بعلامة الاستئناف بعد القطع، وهي نقطتان أفقيتان هكذا (..).
(7) قال أبو عبدالرحمن: الصريف تحريك الأسنان حتى يُسمع صوتُها، مأخوذ من صروف الدهر، ولهذا استعاروا ناب الدهر، وقالوا : (الصَّرْفَةُ ناب الدهر)؛ لتقلُّب (أي تصرُّف) أحوالها.
(8) قال أبو عبدالرحمن: لا معهود تدل عليه الألف واللام؛ فالأفصح (موهبين) بدون (ال).
(9) الدادية ص 41.
(10) انظر الدادية ص 43.
(11) في الدادية ص 230 : (موسيقي فرنسي من مؤلفي الأُوبرا).
(12) الدادية ص 60-61.
(13) الدادية ص 222-224.
(14) موسوعة المصطلح النقدي (اللا معقول بترجمة الدكتور عبدالواحد لؤلؤة) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 2-58، وانظر ص 59.