دائماً ما تقود الحروب والأحداث الجسام المجتمعات البشرية إلى وعي جديد، وإلى فتح ملفات الصفحات والأفكار والآراء الجريئة، وعندما تتوافر مساحة للتعبير يقوم الإعلام في شقيه الصحفي والمرئي بمهمة التعبير عن الشأن العام، ثم يؤدي دوره الوطني في تقويم وإصلاح الرأي العام، ودفع درجة الإصلاح العام، والأهم من ذلك قيادة الوعي من خلال قنوات التعبير العامة بدلاً من ثقافة الهمس والشتم في كهوف الرأي الآخر، وتعد حرية التعبير أحد الأسس الفكرية للتنظيم الاجتماعي الذي يتمثل في دولة الحق والقانون، ويكون مع بقية تلك الأفكار (حقوق الإنسان، السوق، الديمقراطية، المؤسسات الأكاديمية الحرة، واستقلال القانون والقضاء)، مكونات الدولة العصرية الحديثة.
تأسس نسق تاريخي للإنسانية خلال عصر النهضة الأوروبي، ساهمت في تكوينه التجارب التاريخية وجهود المفكريين العظام، والذين تضافرت أفكارهم الجريئة إلى الوصول إلى قناعة لا حياد عنها، وهي أن منظومة دولة القانون والمؤسسات قادرة على حماية الدولة والإنسان من غدر الطبيعة، ويدخل في ذلك السياسي والاقتصادي والاجتماعي. والدولة الحديثة هي حكومة القوانين وليس الأشخاص، وتأتي أهمية تكوينها لتقييد حرية أفراد الحكومة والمجتمع وإلزامها بحدود مصالح الوطن والمواطن من أجل الحفاظ على أمن الدولة ومستقبلها السياسي.
هدف دولة المؤسسسات والقانون هو البعد عن الطبيعي الذي يأكل فيه الإنسان أخاه الإنسان، وذلك بسبب تداخل الخاص مع العام، ثم استغلال القوة ونتائج الانتخاب الطبيعي من أجل فرض المصلحة الخاصة بغض النظر عما سيحدث من كوارث.. والطبيعة التي يحاول الإنسان القوي استغلالها قد تتغير موازينها ثم تحدث الكارثة التي قد تعكس اتجاه القوة.. وتفيد تجربة الإنسان الفلسفية أن ملكية الإنسان من خلال الطبيعة هشة، وتجعله عرضة لاغتصاب أملاكه وحريته، مما يجعله يعيش أحيانا على هامش حريته. يكمن مفهوم الحرية الحقيقي في حدود سلطة القانون، وكما عبًر عنها لوك (إذا لم يوجد القانون لا توجد الحرية)، ويُقال نتمتع بالعيش في حرية إذا اتبعنا القوانين التي نعيش تحت ظلها وغير معتدين على حقوق الآخرين.. وهو فهم منافٍ للفهم الدارج عن مصطلح حرية الإنسان، والذي تتأرجح موازينه في المجتمع باختلاف عوامل الوجاهة والقوة، وحدود الحرية في ظل سلطة القانون هي لب عملية أي إصلاح اجتماعي سياسي أو اقتصادي، والغرض منها حماية المواطنين من الأقوياء الذين يتمتعون بحريتهم داخل حدود الآخرين.
قوة القانون قادرة على صهر القوى المتجابهة في قالب واحد، ثم يلزمهم بالالتزام بمواد القانون، وأن عليهم أن يلجأوا للنظام إذا حدث وهُضمت حقوقهم.. وفي ظل غياب مؤسسات القانون يكثر الصراخ ويسوًق للعنف، ويصبح المواطن المغلوب على أمره عرضة للاستغلال من قبل المؤدلجين بهوس السلطة، كذلك تقف مؤسسات القانون سداً منيعاً ضد الفتن والقلاقل، ويكون في تشريعاتها القنوات التي يشعر من خلالها المواطن أنه محمي من قوى وغرائز الآخرين بقوة الدولة. تعد المساوة أمام القانون قاعدة جوهرية لاستقرار الأمة السياسي والاقتصادي، وهو ما يعني أن الجميع يتساوون أمام سلطة التشريعات، وأنهم ملزمون بالتجاوب معها، لذلك لابد من تعميم القانون على الجميع، وأن يتم نشره ليكون بمثابة حلقات الاتصال بين أفراد المجتمع، وأن تنعم التشريعات بحالة الاستقرار تماماً مثل قانون الطبيعة الأزلي، وألا تحدث تغييرات متسارعة في مواده، وذلك من أجل جعله بمثابة العقل الذي يفكر من خلاله المواطن، وبالتالي، يكون الالتزام به هو بمثابة التعبير عن قبوله بمبدأ المساواة بين المواطنين تحت مظلة القانون.