مما سبق ذكره في الحلقات السابقة يبدو أن هناك عوامل متعددة كانت وراء الانفتاح الفكري لدى الشيخ عبدالرحمن، وفي طليعة تلك العوامل مواهبه الذاتية، والبيئة التي نشأ فيها
|
وتنوع تخصصات أساتذته بخلفياتهم الاجتماعية، والعشق المتدبِّر لتراث ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وكانت نتيجة تلك العوامل واضحة فيما ألفه الشيخ، رحمه الله، من كتب متنوعة الموضوعات، وبخاصة الدلائل القرآنية في العلوم العصرية، والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة، والدين الصحيح يحل جميع المشاكل، والوسائل المفيدة للحياة السعيدة، ووجوب التعاون بين المسلمين.
|
ولعل من المستحسن إيراد أمثلة نابضة حية دالة على تفتح فكري عظيم لدى الشيخ عبدالرحمن، واستيعاب لمستجدات العصر العلمية والفكرية؛ فعندما كانت المحاولات جادة لغزو الفضاء والنزول على سطح القمر لم يبدر منه ما يفيد باستنكاره لتلك المحاولات، بل إنه قال: إن ذلك النزول غير مستحيل بما هيأ الله للإنسان من وسائل علمية. وعندما كانت محاولات زراعة الأعضاء مطروحة نظرياً، وقبل أن تجرى أي عملية بهذا الشأن، رأى إمكانية حدوث ذلك، وأفتى بجواز نقل الأعضاء. وحينما قرأ كتاب دع القلق وابدأ الحياة للكاتب الأمريكي كارينجي أعجب به؛ فكان من نتائج ذلك الإعجاب أن ألف رسالة صغيرة الحجم كبيرة المضمون سماها: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، بيّن فيها كيف يتغلب الإنسان على الاكتئاب وتتحقق له السعادة بالطرق الشرعية.
|
ولقد تمثل عطاء الشيخ عبدالرحمن العلمي والفكري في ميدانين: الأول ما ألفه من كتب ورسائل، والثاني ما قام به من تدريس. وقد أورد الشيخ عبدالله البسام عناوين أربعة وأربعين مؤلفاً من تلك الكتب والرسائل، التي تتناول جوانب مهمة من الدين أصولاً وفروعاً، بينها تفسير القرآن الكريم، الذي أصبح له قبول كبير في جهات مختلفة من العالم الإسلامي. ومن المرجح أن كثيراً من طلاب العلم الشرعي قد أتيحت لهم فرصة للاطلاع على تلك المؤلفات، أو على بعض منها، والاستفادة منها، وفيها الكثير من الفوائد، محتوى ومضموناً، كما أن فيها من الجدة ما فيها؛ عرضاً وأسلوباً. بل إن المرء ليكاد يقول: إنها أشبه ما تكون بجامعة مكونة من كليات شريعة ولغة عربية وعلوم اجتماعية تتناول فيها الموضوعات بأسلوب شيق رصين.
|
|
كان للتدريس نصيبه الوافي في برنامج الشيخ عبدالرحمن اليومي؛ فكان - رحمه الله - يلقي أربعة دروس في اليوم يكون الدرس في كل واحد منها في كتاب معين، عقيدة أو شريعة أو لغة عربية. ويبدأ بقراءة بعض الطلبة للنص الموجود في الكتاب، ثم يشرع الشيخ بشرحه وتفسيره، وإيضاح مدلولاته، ثم إثارة الأسئلة حوله والإجابة عنها. وقد وصف الشيخ عبدالله البسام طريقة شيخه عبدالرحمن في التدريس بقوله:
|
(كان يقرأ العبارة، ثم يوضح معناها توضيحاً تاماً، ثم يصوِّرها؛ أي يقربها من ذهن المتلقّي، ويذكر دليلها وحكمة التشريع منها؛ فإن كان يراها أقرَّها، وإن كان يرى القول الآخر أصح فيها ذكر القول الثاني بنفس الطريقة، ثم أخذ بالقول الذي يراه وبيان أدلته، وتوهين القول الذي لا يراه؛ حتى يقنع الطالب بما يراه. وكل هذا بأسلوب واضح وترتيب مستقيم بحيث إن تفهيمه لا ينخفض عن مستوى الطالب المدرك ولا يرتفع عن مستوى الطالب المبتدئ... وكان من طريقته في التدريس لاختبار ذهن الطلبة المستمعين أنه كان، أحياناً، يغلط نفسه قصداً ليرى حاضر الذهن من الشارد، ثم يبيِّن لهم الصحيح).
|
وكان من أساليب تدريس الشيخ عبدالرحمن إقامة مناظرات علمية بين الطلبة بحيث يحاول كل فريق أن يبرهن على صحة رأيه في المسألة المطروحة بما يقنع من الأدلة. ومن حرصه على أن يجتهد أولئك الطلبة إلى متقدمين في التحصيل العلمي يتلقون العلم مباشرة منه، ومبتدئين عهد بتدريسهم إلى من يدرِّسهم؛ تمهيداً لانضمامهم إلى المتقدمين.
|
وكان من تلاميذ الشيخ عبدالرحمن مَن أصبحت لهم مكانة علمية واجتماعية متميزة؛ تدريساً وتأليفاً وتولياً لمناصب شرعية مهمة. ومن هؤلاء الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل - أمد الله في عمره - الذي كان من أخلص أصفيائه، والذي تولى القضاء في منطقة جازان، كما تولاه بعد ذلك في عنيزة، ثم أصبح عضواً في مجالس قضائية عليا. ومنهم الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام - رحمه الله - الذي تخرج من كلية الشريعة في مكة، ثم تولى مناصب قضائية مهمة بينها رئاسة محكمة التمييز في مكة، ودرّس في الحرم المكي، وكان عضو هيئة كبار العلماء في المملكة، وألف عدة كتب نافعة. ومن أشهر كتبه القيمة كتابه في تراجم علماء نجد الذي نشر أول مرة بعنوان (علماء نجد خلال ستة قرون)، في ثلاثة أجزاء، ثم أعاد طباعته بإضافات مفيدة، ونشره بعنوان (علماء نجد خلال ثمانية قرون).
|
ومن تلاميذ الشيخ عبدالرحمن، أيضاً - وربما أكثرهم ملازمة له - الشيخ محمد بن صالح العثيمين، الذي تخرَّج من كلية الشريعة في الرياض، ودرَّس في المعهد العلمي بعنيزة، ثم في جامعة القصيم، وخلف شيخه عبدالرحمن في إمامة المسجد الجامع في تلك المدينة وخطبة الجمعة فيه، وقد زاد ما نشر له حتى الآن على ثمانين كتاباً أو رسالة، وأمَّه الطلاب من مختلف جهات العالم، وكانت تزيد أعدادهم في فصل الصيف، بخاصة، على المئات، كما كان يتحلق حوله في الحرم المكي بشهر رمضان الآلاف من الطلاب والمستفيدين من علمه الغزير.
|
ولقد رأى الشيخ عبدالرحمن؛ ورعاً وزهداً، تجنُّب الوظائف الرسمية الحكومية؛ وبخاصة القضاء. وعندما عرض عليه أن يشرف إشرافاً علمياً على المعهد العلمي في عنيزة قبل ذلك العرض، لكنه - وهو الورع الزاهد - جعل قبوله مشروطاً بأن يكون إشرافه مجانياً. ولقد سعد كاتب هذه السطور بكونه أحد طلاب ذلك المعهد الذين رعاهم خير رعاية، والقلة الذين ألقوا أمامه كلمات أو قصائد أو شاركوا في تمثيليات بنادي المعهد المذكور.
|
وبتجنُّب الشيخ عبدالرحمن - رحمه الله - الوظائف الرسمية الحكومية فرَّغ نفسه لنشر العلم؛ تدريساً وتأليفاً، والقيام بما يخدم المجتمع؛ تأليفاً للقلوب، وإسهاماً في حل المشكلات، وكتابةً للوثائق والوصايا، وعقداً للأنكحة، وغير ذلك من أعمال نافعة اجتماعياً، ونشراً للمحبة الصادقة، ومساعدةً لمن يحتاج إلى مساعدة.
|
ولم يكن غريباً أن تحظى سجاياه الحميدة، وخصاله الكريمة، بما حظيت به من تقدير لدى مَن هم قدوة للمجتمع ومصابيح للأمة. وفي طليعة العلماء الذين أثنوا عليه بما يستحقه من ثناء الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - الذي قال عنه:
|
(كان رحمه الله، كثير العناية بالفقه والعناية بمعرفة الراجح من المسائل الخلافية بالدليل، وكان قليل الكلام إلا فيما ترتب عليه فائدة. جالسته غير مرة في مكة والرياض. وكان كلامه قليلاً إلا في مسائل العلم. وكان متواضعاً، حسن الخلق. ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه وعنايته بالدليل).
|
وقال عنه تلميذه الشيخ محمد العثيمين رحمه الله:
|
(قل أن يوجد مثله في عصره في عبادته وعلمه وأخلاقه حيث كان يعامل كلاً من الصغير والكبير بحسب ما يليق بحاله، ويتفقد الفقراء؛ فيوصل إليهم ما يسد حاجتهم بنفسه. وكان صبوراً على ما يلمُّ به من أذى الناس، كما كان يحب العذر ممن حصلت منه هفوة حيث يوجهها توجيهاً يحصل به عذر من هنا).
|
وقال عنه تلميذه الشيخ عبدالله البسام رحمه الله:
|
(له أخلاق أرق من النسيم، وأعذب من السلسبيل، لا يعاتب على الهفوة، ولا يؤاخذ بالجفوة، يتودد ويتحبَّب إلى البعيد والقريب، يقابل بالبشاشة، ويحيي بالطلاقة، ويعاشر بالحسنى، ويجالس المنادمة، ويجاذب أطراف أحاديث الأنس والود، ويعطف على الفقير والصغير، ويبذل طاقاته ووسعه بالخير، ويساعد بماله وجاهه، وينشر علمه ونصحه، ويدلي برأيه ومشورته بلسان صادق وقلب خالص وسر مكتوم).
|
ولقد فجع محبوه وكل مَن عرفه بانتقاله إلى رحمة الله فجر يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة عام 1376هـ. ورثاه عدد من الأفاضل، وممن رثاه كاتب هذه السطور؛ وذلك بقصيدة من 29 بيتاً هي الوحيدة مما قاله في الرثاء؛ ومطلعها:
|
مهج تذوب وأنفس تتحسَّرُ |
ولظى على كل القلوب تُسعَّرُ |
|
يا راحلاً ريع التقاة لفقده |
وبكى تغيُّبه الحمى والمنبر |
لو كنت تفدى بالنفوس عن الرَّدى |
لفدتك أنفسنا وما نتأخَّر |
لكن تلك طريقة مسلوكة |
وسجيَّة مكتوبة لا تقهر |
كتب الفناء على الأنام جميعهم |
سيَّان فيها فاجر ومُطهَّر |
لكن من اتخذ الصلاح شعاره |
تفنى الخليقة وهو حيٌ يذكر |
|
يا ناصر الإسلام ضد خصومه |
لك في الجهاد مواقف لا تحصر |
قد كنت للدين الحنيف معضداً |
وبشرعه الهادي القويم تعبِّر |
كم من فؤاد عام في لجج الهوى |
أنقذته أيام كنت تذكِّر |
بصَّرته بهدى المشرِّع فارعوى |
عن غيِّه فلك الجزاء الأوفر |
طوراً تحذِّره العذاب وتارة |
برضى الإله، وما أعدَّ تبشِّر |
ولكم خطبت على الأنام مذكِّراً |
أن الحنيف على العباد ميسَّر |
يا زاهداً عرف الحياة فما هوى |
في المغريات ولا سباه المظهر |
نَمْ في جنان الخلد يا عَلَم التقى |
وانعم بظلٍّ وارف لا يحسر |
|