إعداد: عبدالعزيز بن عبدالله المضحي*
ولهذا المصحف الذي نحن بصدد الحديث عنه من الناحية الفنية أهمية خاصة، فهو يقدم أنموذجاً من نماذج المصاحف المنسوخة بوسط الجزيرة العربية، وما وصلت إليه زخرفتها من مستوى في عصر الدولة السعودية الثانية.
المصحف غير مجلد، وأوراقه غير محبوكة، حُفظت داخل صندوق ورقي مجلد بدون غطاء، صُنعت دفتاه من مجموعة أوراق دفتر حسابات من النوع الذي كان يُستخدم في سواحل الخليج العربي، رصت فوق بعضها وألصقت بالغراء، وأما جانباه وأسفله فهو شريط من الجلد المدبوغ المصبوغ من جهته الخارجية باللون الأحمر القاني، والوعاء في حالة سيئة وإحدى دفتيه وجوانبه تعرضت للتلف والتمزق، والصندوق ملفوف داخل كمامة مهترئة من قماش الكتان الأبيض، وعلى الرغم من هذا الحرص في حفظ أوراق المصحف داخل الصندوق والكمامة تعرضت بعض الأوراق للضياع والتمزقات وتآكل الحواف، فنجد الورقة التي ما بين الجلدة وورقة العنوان، وإحدى ورقتي الديباجة قد تعرضت حوافها للتآكل الشديد، واستُخدم في لصق بعض ما تمزق من أوراقه شريطٌ لاصق شفاف وآخر غير شفاف، وقد ترك الأول أثراً للمادة اللاصقة شوهت بعض ورقات المصحف، وتسبب الآخر في إخفاء بعض كلمات المتن القرآني مما استدعى إعادة كتابتها فوق الشريط اللاصق باستخدام قلم حبر أزرق جاف حديث، وبعض أوراق المصحف فقدت بالكامل وهي الورقة الأولى من المصحف التي تحوي سورة الفاتحة والآيات الخمس الأولى من سورة البقرة وما فيها من زخرفة، والورقة الأخيرة من المصحف التي تحوي سورتي الفلق والناس.. وربما كذلك معلومات عن تاريخ النسخ والناسخ وديباجة الخاتمة، وهناك ورقتان أخريان، إحداهما تمزقت إلى قطعتين، والأخرى كذلك تمزقت إلى قطعتين مع فقدان إحدى القطعتين، فبذلك يكون مجمل ما فقد من المصحف ورقتين، وما تمزَّق بالكامل ورقتان، وأما عدد أوراقه المتوفرة فهي 141 ورقة من الورق الأوروبي، إيطالي الصنع، يميل إلى الصُّفرة، تظهر فيه الخطوط المتوازية المتقاربة يقاطعها عمودياً خطوط أخرى متوازية متباعدة يبعد كل خط عن الآخر 3 سم، كما يحمل الورق علامة مائية تجارية للمصنع هي درع بيضاوي الشكل تقريباً يشبه العين مرسوم من خطين، وبداخله هلال على شكل وجه إنسان عابس أو وجه مُهَرِّج، ويظهر كذلك فيه الحرفان الأولان لصاحب المصنع V G فيتوري جولفاني، وأبعاد ورقات المصحف هي 22سم × 16سم.. ويتراوح عدد السطور في الصفحة الواحدة ما بين 20و22 سطراً، وعدد الكلمات في السطر الواحد لا يزيد على 16 كلمة، ولا ينقص عن 9 كلمات تقريباً. وكُتب النص القرآني بما فيه البسملة وتشكيله ونقطه ومدِّه المتصل بمداد أسود، وأما عناوين السور وبيانات النزول وعدد الآيات وبعض علامات التجويد من وقف ومد منفصل ووصل وإدغام، مثل: ن وج وط وم و~ فكتبت بمداد أحمر، في حالة الإقلاب يرسم الناسخ ميماً صغيرة بمداد أحمر فوق موضع الإقلاب فوق حرف الباء الذي تسبقه النون الساكنة أو التنوين، وفي حالة الإدغام المثلي الصغير يرسم شدَّة فوق الميم المتحركة بمداد أحمر، وعند الإظهار الحلقي يرسم نوناً بمداد أحمر فوق التنوين أو تحته حسب المساحة المتوفرة، وعند الإدغام بغنة وبغير غنة يرسم شدة فوق حرف الإدغام، والآيات فُصِلت بالتحمير وكُتبت أقسام المصحف والسجدات بالمداد الأحمر أيضاً، وكذلك جدولة بيانات السور رسمت أضلاعها بخطين من المداد الأحمر، وتختلف بعض الشيء في الأبعاد من ورقة إلى أخرى، فتتراوح ما بين 9 سم إلى 12 سم عرضاً وما بين 18 سم و 18.5 سم طولاً.. و أما ديباجة المصحف فهي عبارة عن صفحتين متقابلتين مزينتين بزخارف هندسية بالألوان: الأحمر والأصفر والأخضر، انعكست على زخرفتها نقوش البيئة النجدية، كُتب في الصفحة الأولى منها سورة الفاتحة والآيات الخمس الأولى من سورة البقرة ويليها في الصفحة الثانية الآية السادسة من سورة البقرة إلى الآية الثالثة عشرة في أحد عشر سطراً، ثم يلي هذه الديباجة النص القرآني الذي يبدأ بتكملة الآية الثالثة عشرة من سورة البقرة ثم بقية السورة وسور المصحف، النص القرآني في الديباجة وبعدها كُتب بخط نسخي بمداد أسود، وحديثنا عن الديباجة مبني على التصور لشكل الديباجة المعتاد من خلال الصفحة الثانية المتوفرة من الديباجة، بسبب فقدان الصفحة الأولى نتيجة ضياعها أو تمزقها وتلفها لكثرة ما مستها الأيدي وتناولتها للقراءة فيه، ويظهر أن الصفحة الأولى من الديباجة فُقِدت من فترة طويلة لذا نجد أن سورة الفاتحة وسورة الناس قد قُيدتا بخط نجدي بمداد أسود في ظهر الورقة ما بين جلدة الكتاب وصفحة العنوان، ولعل سورة الفلق والآيات الخمس الأولى من سورة البقرة قُيدت في ظهر الورقة الأخيرة من المصحف ما بين الخاتمة والجلدة أو في ورقة أخرى أضيفت للمصحف ثم فقدت أيضاً فيما بعد.
تاريخ المصحف
نظراً لفقدان خاتمة المصحف التي ربما كُتب فيها اسم الناسخ وتاريخ النسخ ومكانه، فمن غير المعروف اسم الناسخ وتاريخ كتابة المصحف تحديداً، ومن خلال تفحص المصحف وخطه وزخرفته، فهو من منسوخات القرن الثالث عشر الهجري، وناسخه الشيخ شريدة الطيَّار رحمه الله تخميناً، فخط المصحف وزخرفته مشابهان لخط وزخرفة الشيخ شريدة في منسوخاته الأخرى إلى درجة قد تصل إلى حد التطابق. وللتأكد من هوية ناسخ المصحف قمت بعرض إحدى ورقاته على الزميل الدكتور عبد الله بن محمد المنيف رئيس قسم المخطوطات سابقاً بمكتبة الملك فهد الوطنية، فأشار المنيف إلى احتمالية أن تكون إحدى أوراق مصحف عماني أو ربما يمني، وبعد إخباري له أن هذه الورقة هي إحدى ورقات مصحف نجدي فيما أعتقد، وأرجح إلى أن يكون ناسخه هو الشيخ شريدة، وافقني الرأي في هذه الاحتمالية وأضاف المنيف بأنَّ المداد المستعمل في كتابة النص القرآني هو مداد الناسخ شريدة الذي يتميز بشدة سواده، والخط يشبه خط الناسخ شريدة عدا أن هذا الخط في الورقة ملموم، وشريدة يُمطِّطُ الخط في ما اطلع عليه من منسوخات الشيخ شريدة المحفوظة بمكتبة الملك فهد الوطنية.
ناسخ المصحف يُعتقد أنه الشيخ الأديب الناسخ المزَّوق شريدة بن الشيخ الأديب الشاعر علي بن محمد بن راشد الطَّيَّار، وأسرته الطيار من سلالة الصحابي الشهيد جعفر الطيَّار، انتقل القسم الأكبر منها من موطنها الحوطة إلى الكويت واستقروا فيها من منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريباً، منهم هناك: محمد بن زيد بن شريدة الطيار.. وسعد بن شريدة الطيار من الأعيان والتجار المعروفين بالكويت في زمنهما، وُلد المُتَرجم بالحوطة في منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريباً، وطلب العلم على يد والده وعلى يد مشايخ الحوطة، ثم انتقل للرياض وطلب العلم على يد مشايخها، وأثناء إقامته في الرياض لطلب العلم قويت صلته بالإمام فيصل بن تركي رحمهما الله الذي كان يولي أهل العلم وطلبته كل عناية وتقدير سيراً على نهج الأئمة الكرام من آل سعود، بعدما أشبع المُتَرجم نهمه من التحصيل العلمي رجع لموطنه الحوطة، وعمل بالتجارة مع والده الشيخ علي، وكان يتردد من حين لآخر على مدينة الرياض لزيارة مشايخها والسلام على الإمام فيصل ويهديه منسوخاته ويكافئه الإمام عليها بالجوائز، وبعد اضطراب الأوضاع إثر وفاة الإمام فيصل بن تركي رحمهما الله سنة 1282هـ انتقل الشيخ شريدة للأحساء، وأثناء مرور الإمام عبدالرحمن بن فيصل بالأحساء في طريقه إلى قطر رافقه المترجم إليها، وأثناء مرور الإمام عبدالرحمن بالبحرين في طريقه إلى الكويت طلب الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين آنذاك من الإمام أن يبقى المُتَرجم لديه للعمل في الديوان، فبقي المترجم بالبحرين وصار وزيراً وكاتباً في ديوان الشيخ عيسى وبقي في منصبه إلى حين وفاته بالبحرين في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وخلف عدداً من الأبناء (2)، ومن منسوخاته ما يلي:
1 - كتاب (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) لابن قيم الجوزية سنة 1274هـ، وتوقيعه عليه: (بقلم الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير راجي عفو ربه الولي الغفَّار شريدة بن علي الطيار)، محفوظ بمكتبة الملك فهد الوطنية.
2- كتاب (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) لابن قيم الجوزية سنة 1274هـ، وتوقيعه عليه( بقلم الفقير إلى رحمة ربه الولي الغفَّار شريدة بن علي الطيار)، محفوظ بمكتبة الملك فهد الوطنية.
3- كتاب (طريق الهجرتين وباب السعادتين) لابن قيم الجوزية، ووقَّع في آخره ب(الراجي عفو ربه الغفار شريدة بن علي الطيار) سنة 1276ه، أوقفته نورة بنت الإمام فيصل بن تركي على طلبة العلم في 19 جا سنة 1276ه، محفوظ بمكتبة الملك فهد الوطنية.
4 - كتاب (تحرير القواعد) لابن رجب الحنبلي، شارك في نسخه مع الشيخ عبد الرحمن بن سليمان المسعري سنة 1295هـ، محفوظ بمكتبة الملك فهد الوطنية.
5- كتاب (الرسالة المدنية في بيان العقيدة السُّنِّية) لابن معمر، وختمه الناسخ بقوله: (وقع الفراغ في نسخ هذه النسخة الشريفة صباح الأحد لثلاثة أيام بقين من رجب أحد شهور سنة 1273هـ بقلم أفقر عباد الله شريدة بن علي الطيار غفر الله له وصلى الله على محمد وآله وسلم)، محفوظ في مكتبة آل عتيق الخاصة.(3)
6- كتاب (الكلام على كلمة الإخلاص وتحقيق معناها) لابن رجب الحنبلي، النسخ غير مؤرخ، محفوظ بمكتبة الملك فهد الوطنية.
7- كتاب في علوم القرآن، والنسخ غير مؤرخ، لم أعثر على اسم الكتاب في المصادر المتاحة، محفوظ بمكتبة الملك فهد الوطنية.(4)
صاحبة المصحف
مالكة المصحف هي نورة بنت مضحي بن رشيد، من أسرة آل مضحي من الأسر القديمة في الرياض، وتنتمي المترجمة إلى الفرع الذي يسكن حي الصفاة قريباً من قصر الحكم في عهد الدولة السعودية الثانية والثالثة، وأغلب رجال هذا الفرع من الفرسان والمحاربين في صفوف أئمة الدولة السعودية، ونظراً لتقادم العهد وعدم اطلاعي على ما يكفي من وثائق أسرية تقدم مزيداً من المعلومات قد تشفي غليل الباحث، فلا نعلم تاريخ ميلادها أو وفاتها على وجه التحديد أو التقريب، ويظهر للكاتب أنها تعلمت قراءة القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة في مدينة الرياض على يد معلمة كريمات الأئمة من آل سعود وكريمات أهالي الرياض في الدولة السعودية الثانية، رابعة بنت الشيخ علي بن محمد آل عتيق المتوفاة بالرياض في أواخر النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، وكانت المترجمة متزوجة من ناصر بن حمدان بالرياض، وسكنت معه الأحساء بحكم عمله به وكيلاً للإمام فيصل بن تركي لبيت المال هناك، وابن أخي المترجمة هو مضحي بن مبارك بن مضحي من رجال الإمام فيصل ومرافقيه في إقامته الثانية بمصر ووكيله لبيت المال بالأحساء، ومن المحتمل أن يكون المصحف قد آل إلى المترجمة بالشراء مباشرة من الناسخ الشيخ شريدة الطيار خلال إحدى زياراته للرياض التي يقبل فيها المشايخ وطلبة العلم على شراء ما يجلبه من موطنه من منسوخات.
ديباجة المصحف
الديباجة عبارة عن صفحتين متقابلتين، إحداهما موجودة والأخرى مفقودة كما أسلفت، الصفحة المفقودة مماثلة للموجودة وصورة معكوسة عنها، ونصف الديباجة الموجود مقسم إلى خمسة مستطيلات مختلفة الأحجام، جميعها رسم محيطاها الداخلي والخارجي بمداد أحمر، أكبرها المستطيل الذي يتوسط الصفحة محيطاً بأنصاف الدوائر المستقلة المرسومة أعلى المستطيل المحيط بالنص القرآني، يليه مستطيل الهامش الأيسر، وأصغرها مستطيل الهامش الأيمن.. وتحيط هذه المستطيلات بثلاثة أنماط من الأشكال الدائرية:
1- أنصاف الدوائر، بنوعيها المتقاطع وغير المتقاطع، وعدد غير المتقاطع ثلاث رسمت أعلى المستطيل الأوسط الذي يحيط بالنص القرآني مباشرة، أكبرهم طلي داخلها بمداد أحمر تتوسط نصفي الدائرتين الأخريين اللتين لهما نفس الحجم وطليت دواخلهما بمداد أخضر، ورُسم محيطا جميع أنصاف الدوائر بالمداد الأحمر.. وتسبَّب وقوع أنصاف الدوائر الثلاث تلك مباشرة فوق المستطيل في ظهور شكل مِحْرَاب يحيط بالنص القرآني، تعلوه ثلاث قبب.
أما فيما يتعلق بأنصاف الدوائر المتقاطعة فقد رسمت بشكل عمودي يحيط بها مستطيل الهامش الأيمن، لوّن محيطها بمداد أحمر ودواخلها بمداد: أحمر وأصفر وأخضر.
2- الدوائر المنفصلة، اثنتان رسمتا في مستطيل الهامش السفلي، كل دائرة تحيط بستة من أنصاف الدوائر المتقاطعة عند مركز الدائرة، طليت المساحة ما بين محيط المستطيل ومحيطي الدائرتين بمداد أحمر، ولوّنت دواخل أنصاف الدوائر المتقاطعة داخل كل دائرة بالمداد: الأحمر والأصفر والأخضر.
3- الدوائر المتقاطعة، رُسمت في مستطيل الهامش الأعلى ومستطيل الهامش الأيسر بشكل متكرر ومتناسق، رسم محيط هذه الدوائر بمداد أحمر، ولوّنت دواخل بعض هذه الأشكال الهندسية وبعض بتلات الزهرات الناتجة عن التداخل باللون الأحمر والأصفر والأخضر وبعضها ترك بلا تلوين، ويلاحظ اختلاف حجم هذه الدوائر المتداخلة من مستطيل لآخر، فحين نجد انسجاماً في الحجم ما بين الدوائر في المستطيلين بالهامشين الأيمن والأيسر، فإننا نجد انسجاماً في الحجم بين الدائرتين المنفصلتين أسفل المحراب ونصف الدائرة التي تعلوه، ويُشُدُّنا تناغم آخر في الحجم ما بين نصفي الدائرتين الصغيرتين أعلى المحراب والدوائر المتقاطعة في مستطيل الهامش العلوي.
خط المصحف
كُتب هذا المصحف بخط نسخي التزم فيه الناسخ بقواعد خط النسخ في رسم الحروف والتنقيط التزاماً كاملاً عدا بيانات رؤوس السور فكتبها فيما يظهر لي بخط نجدي، خليط بين الرقعة والنسخ شاع استخدامه في نسخ المخطوطات بين النُّساخ وكتبة الوثائق من النجديين، ولا يلتزم في العادة بقواعد الخط الواحدة في النسخ أو الكتابة.. وخط النسخ هو الخط الشائع في نسخ المصاحف في المشرق العربي، ولا شك في أن الناسخ ينسخ عن مصحف مكتوب بخط نسخي، ومعلوم ما للمصحف من مكانة قدسية فهو بحاجة إلى خط واضح ومشكَّل للقراءة فيه بقراء عربية فصيحة، بخلاف ما سواه من مخطوطات غير قرآنية أو وثائق محلية.. الناسخ رسم الحروف كما يجب أن ترسم في خط النسخ، فمثلاً الحروف التي يجب أن تنزل تحت السطر: (ج ح خ ع غ س ش ص ض ق ل ن و ي) المفردة والأخيرة الموصولة، ولم يطمس الناسخ من الحروف إلا حرفي (ع غ) الوسطى أو الأخيرة الموصولة.. تمتاز حروف (رزو) بأنها مدورة وكأنها ربع دائرة، ويلاحظ وجود حلية على رأس الألف واللام وبعض الحروف.. وحروف (ج ح خ) تقفل مع الحروف الطالعة وتفتح فيما عداها، ولكن ليس في كل المصحف، ونلحظ أن الناسخ طمس حرفي (ف ق) دائماً في بداية الكلمة، وعقف الطرف السفلي لحرف (ر)، ورسم حرف (هـ) الوسطى بشكل مفتوح وأخرى بشكل مقفول.
فواصل الآيات والتقسيمات والجدولة
كتب الناسخ بيانات السورة بخط نجدي بمداد أحمر في جدولة صغيرة رسم إطاريها الداخلي والخارجي بمداد أحمر أيضاً، ويظهر فيها تمكن الناسخ وبراعته في مجال النسخ، فأحياناً يكتب معلومات السورة، اسم السور وعدد آياتها و أمكية هي أم مدنية متوسطة ما بين أواخر كلمات آخر آية من السورة السابقة، وأحياناً أخرى يكتبها متوسطة ما بين آخر آية من السورة السابقة وبسملة السورة اللاحقة وأحياناً العكس، فيجعل بسملة السورة متوسطة ما بين كلمات بيانات السورة نفسها، في تداخل جميل ما بين المدادين الأسود والأحمر.(5)
الآيات في المصحف فُصلت بدوائر حمراء مفرغة، والمصحف خالٍ من أي تذهيب، ومن الشمسات المذهبة وغير المذهبة في مواضع تقسيمات النص القرآني والسجدات، وحين يبتدئ الجزء أو أجزاؤه من ربع ونصف وثلاثة أرباع في وسط السطر يُحمِّر الناسخ عشر كلمات تقريباً من بداية الآية بحيث تتوسط الكلمات المحمَّرَة بين الكلمات المسوَّدة في أول السطر ونهايته، ويكتب بموازاة السطر في الهامش الأيمن أو الأيسر رقم الجزء وأجزاؤه كتابةً بمداد أحمر، ويُظْهِرُ الواو بعد الهمز فيكتب مثلاً: (الجزؤ الرابع، ربع الجزؤ الرابع، نصف الجزؤ الرابع، ثلاثة أرباع الجزؤ الرابع)، وأما حين يبدأ الجزء من أول السطر فإن الناسخ يحمر السطر كاملاً ويكتب في الهامش الأيمن أو الأيسر رقم الجزء كتابةً بمداد أحمر، وحين تكون بداية الجزء مع بداية أول آية من السورة فإنه لا يُحمِّر مطلقاً، ويكتفي بتوضيح رقم الجزء كتابةً في الهامش بالمداد الأحمر.. وفي حالة تقسيمات المصحف عند الأثمان، يحمر الناسخ أول حرف أو حرفين أو ثلاثة من أول كلمة يبدأ عندها التقسيم، ويكتب بموازاتها في الهامش بمداد أحمر كلمة (ثمن)، ويكتفي بالكتابة لتوضيح التقسيم دون تحمير أية حروف في النص القرآني حين يبدأ الثمن مع أول السطر.. وفي مواضع السجدات في الآيات القرآنية، يكتب الناسخ بموازاتها في الهامش الأيمن أو الأيسر كلمة: (سجدة) تسبقها أحياناً دائرة حمراء مفرغة كالتي يستخدمها الناسخ فواصل للآيات.. وأما تعقيبات صفحات المصحف كُتبت بنفس المداد الأسود والخط الذي كُتب به نص المصحف، ووردت التعقيبات في جميع ورقات المصحف، كُتبت في أسفل كل صفحة يُمنى.
التصحيحات
كثيراً ما تقع الأخطاء من قبل النُّسَّاخ حين يقومون بعملية النسخ التي تتم يدوياً في السابق قبل ظهور آلات الطبع والنسخ الحديثة، وعادة ما تكون الأخطاء سقطاً بنقصان حرف أو كلمة أو أكثر أو زيادةً بتكرار حرف أو كلمة أو أكثر أو الوقوع في خطأ إملائي، ومن هنا ظهرت أهمية مقابلة النص المنسوخ مع الأصل المنسوخ منه لتصحيح الأخطاء، وقد لا تنتهي عملية التنبه للأخطاء وإصلاحها بانتهاء عملية المقابلة فقد تستمر فيما بعد في فترات زمنية متفاوتة، ويصحح القارئ ما يجده من خطأ قد فات على القارئ السابق، وهنا في هذا المصحف يمكن تقسيم التصحيحات إلى ثلاثة أقسام:
1 - تصحيح السقط، وهو النقص الذي يحدثه الكاتب في النص القرآني، بنسيانه حرفاً أو كلمة أو أكثر سهواً، وأكثر التصحيحات في هذا المصحف من هذا القبيل، ويقوم الناسخ بوضع علامة تشبه الرقم 7 فوق موضع السقط في النص بمداد أحمر ثم يكتب ما سقط من النص بموازاة السطر في الهامش بمداد أسود ويرسم فوقه علامة التصحيح(7) وأسفله كلمة(صح) بالمداد الأحمر، وأحياناً يكتب الكلمة الناقصة بمداد أسود فوق موضعها بشكل رأسي حين تتوفر المساحة الكافية فيما بين السطرين، وفي حالة ما إذا كانت الكلمة الناقصة تقع ما بين آخر كلمة من السطر السابق وأول كلمة من السطر اللاحق فيكتبها الناسخ في الهامش بامتداد نهاية السطر السابق أو في امتداد بداية السطر اللاحق، وإذا أسقط الناسخ آية بالكامل من النص كتبها في الهامش بمداد أسود بشكل رأسي.. وفيما بعد صحح بعض السقط من قراء بخطوط مختلفة، فنجد علامة(7) فوق موضع السقط في النص ويكتب ما سقط من النص في الهامش بمداد أسود ويختمه بكلمة (صح) بمداد أسود.. وتصحيح آخر استخدم فيه علامة الرقم اثنين(2) فوق موضع السقط وكتب النص الساقط في الهامش وأنهاه بنفس العلامة بمداد أخف سواداً من سواد مداد النص القرآني، كما أحدثت بعض التصحيحات المتأخرة بقلم حبر أزرق حديث للكلمات الساقطة من النص بمحاذاة السطر في الهامش وفوق الشريط اللاصق غير الشفاف الذي أخفى كلمات النص.
2 - تصحيح التكرار، في حالة وجود كلمة أو أكثر كُرِّرَتْ في النص يشطب الناسخ إحدى الكلمات المتكررة بخط واحد أفقي يخطه بالمداد الأحمر إذا كانت في وسط السطر.. أما إن كانت في بداية السطر فيشطب اللاحقة وإن كانت في نهايته فيشطب السابقة.
3 - تصحيح الإملاء، وهو تصحيح ما يقع فيه الناسخ من أخطاء إملائية أو كتابة كلمة أو أكثر في غير موضعها الصحيح من النص، وفي هذه الحالة لاحظت أن الناسخ يقوم بكشط الكلمة كاملة أو بعض حروفها من سطح الورقة كشطاً خفيفاً لا يكاد يُرى بالعين المجردة، ويعيد كتابة الكلمة والحرف الصحيح مكان الكشط.
الأحبار المستخدمة في الكتابة والزخرفة
مما لا شك فيه ما للأَمِدَّة مختلفة الألوان من دور في التوشية وتمييز أقسام المصحف وفواصل الآيات، والسجدات، وجداول بيانات السور، وكتابة الهوامش سواء كانت تصحيحات أو شروح، وإن كان المداد الأحمر أكثر الألوان شيوعاً في هذا المجال فهو مما استخدمه الناسخ في هذا المصحف، بالإضافة إلى استخدامه الألوان الأخرى، الأخضر والأصفر في تلوين الديباجة وتشكيل الزخرفة الفنية لها، ويمكن تقسيم ما استعمله الناسخ من مداد إلى قسمين: قسم محلي الصنع، وقسم مستورد، والقسم المحلي الصنع هما المدادان:
1 - الأسود، استخدم في كتابة النص القرآني، الناسخ يحبذه شديد السواد وهو ما استخدمه الناسخ في منسوخاته الأخرى، وهو مداد عفصي، يُحضر محلياً.
2 - الأصفر، استخدم في تلوين الزخرفة، خشن الملمس على الورق وغامق اللون، مما يشير إلى تحضيره محلياً من مادة الكركم.
وأما القسم المستورد، فهما المدادان:
1 - الأحمر، استخدم في الزخرفة والسجدات وعلامات التصحيح والسقط وتحمير فواصل الآيات وبداية الأثمان، يُضاف إليه الماء ثم يكتب ويلون به مباشرة.
2 - الأخضر، استخدم في تلوين الزخارف فقط، وهو مداد أخضر غامق، يُضاف إليه الماء ثم يُستخدم في الكتابة والتلوين مباشرة.
التقييدات
في وجه الورقة التي تلي الجلدة وقبل صفحة العنوان، نجد ستة تقييدات في وجهها، واثنان في ظهرها، والقيود الستة حسب ترتيبها من أعلى الورقة إلى أسفلها كالآتي:
الأول: آية قرآنية، والمُثبت في القيد جزء من الآية رقم 12 من سورة الطلاق: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)، كُتب القيد بمداد أسود، ونصه: (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ)، وتكملة الآية فُقدت نتيجة تآكل حافة الورقة.
الثاني: وصية، كتب القيد بمداد أسود بصيغة رسالة فيها بعض الأخطاء الإملائية، يتقدم نص الوصية ديباجة مراسلة وتنتهي بالصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونصه: (السلام إلى جناب المكرم الأخ رشد (كذا) ويا أخي أوصيك بتقوى الله تعالى والمحافظة على الصلوات الخمس المكتوبة بطمأنينة ونية.. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً)، والكلمتان (جناب المكرم) يظهر عليهما أثر طمس خفيف.
الثالث: وقفية، مؤرخ في سنة 1267 من الهجرة النبوية بدون إشارة إلى وكيل - ناظر الوقف أو الجهة الموقف عليها أو مكان ومن ينتفع بالقراءة فيه من المسلمين، واستناداً إلى تاريخ التوقيف يكون قد مضى عليه 157 عاماً، قرن ونصف القرن، كُتب القيد بمداد أسود وبخط كبير ممطوط، وصيغ بلهجة محلية بدون تشكيل للحروف ويمكن قراءته بالفصحى، ونصه: (وقف نورة بنت مضحي ومِنْ غَيَّرَهْ فحَسْبَهْ رَبَّه سنة 1267هـ).
الرابع: صلاة على النبي، كتب القيد بمداد أسود، ونصه: (اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم).
الخامس: صلاة على النبي، كتب القيد بنفس الخط والمداد مثل سابقه، ونصه: (سلم اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً).
السادس: وقفية، غير مؤرخ، حمل اسم الموقفة (نورة بنت مضحي)، كُتب القيد بمداد أحمر داخل مستطيل رسمت أضلاعه من خطين بنفس المداد، ونصها: (وقف نورة بنت مضحي).
وجميع القيود السابقة كُتبت بنفس الخط والمداد وأرجح أن تكون صاحبة المصحف نورة بنت مضحي كتبتها بقلمها ما عدا قيد الوقف الأخير فلا أعلم كاتبه تحديداً أو ترجيحاً.
وأما القيدان اللذان في ظهرها فهما حسب ترتيبها من أعلى الورقة إلى أسفلها:
الأول: سورة قرآنية، وهي سورة الناس كاملة بما فيها البسملة، قيدت هنا للتعويض عن فقدان الورقة الأخيرة من المصحف التي تحوي سورتي الفلق والناس.
الثاني: سورة قرآنية، وهي سورة الفاتحة، من البسملة إلى (اهدنا الصراط المستقيم. صراط)، وبقية الآية اختفت مع تآكل حافة أسفل الورقة، وقيدت للتعويض عن فقدان الورقة الأولى من ديباجة المصحف التي تحوي سورة الفاتحة والآيات الأوائل من سورة البقرة.. وهذان القيدان كُتبا بنفس الخط والمداد الأسود، فالخط خليط بين الرقعة والنسخ، وإن كنا لا نعلم كاتبهما بالتحديد فإنه مغاير لخط المتن القرآني ولخط قيد وقف المصحف الذي رجحناه أنه يعود إلى صاحبته: (نورة بنت مضحي).
والسؤال هنا أين قُيدت سورة الفلق؟ هل قُيدت في ورقة أخرى من نفس أوراق المصحف أم إلى ورقة أخرى أضيفت إلى أوراق المصحف؟ أم لم تقيد أصلاً.. فنحن لا نملك الإجابة على هذا التساؤل لعدم توفر ورقة القيد المذكور بين أيدينا.. والقيد الأخير كُتب في الهامش الأيمن لإحدى ورقات النص القرآني بمحاذاة أول سورة النازعات، وهو قيد كلمة التوحيد، كُتب بمداد أسود تحوَّل للون البني بسبب تأكسد المداد مع الأوكسجين الجوي، وبخط مختلف عن جميع خطوط القيود مما يشير إلى أن كاتبه شخص آخر، ونصه: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
من خلال هذه الدراسة السريعة للمصحف ظهر لنا براعة بعض النساخ النجديين في توظيف وتعقيد زخارف بيئته التقليدية المحافظة في تزويق منسوخاته، وتحويلها إلى لوحة فنية جميلة تعبر عن بيئته. وختاماً آمل أن نرى في الوقت القريب دراسات أكاديمية تُعنى بدراسة المصاحف النجدية، وأن تقبل الأسر بدراسة ونشر ما لديها من مصاحف نسخت على أرض الوطن وتزويد مكتباتنا الوطنية بصور منه ليتاح للباحثين الاطلاع عليها ودراستها.
الهوامش
1) موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف على الإنترنت و ويكيبيديا: الموسوعة الحرة على الإنترنت.
2) مقابلات مدونة في أوراقي الخاصة.
3) اعتنى به الشيخ إسماعيل بن سعد آل عتيق، ونشرته مكتبة الهداية بالرياض عام 1413هـ.
4) د. اليحيا، نادية، تقييدات النجديين على المخطوطات، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1429هـ - 2008م، ص188 .
5) تداخل البسملة مع عناوين السور هو أمر شائع وموجود في مخطوطات القرآن الكريم المنسوخة من القرن الثالث عشر الهجري. (د. محمد أمان، الكتب الإسلامية، ترجمة وتعليق د. سعد الضبيعان، مكتبة الملك فهد الوطنية 1411هـ - 1990م، مطابع الشريف، ص10، بتصرف).
الرياض 11345 ص ب 380694
Amudhy@yahoo.com