Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/12/2009 G Issue 13583
الأحد 19 ذو الحجة 1430   العدد  13583
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

عندما نشر مقالي الأسبوعي في (الجزيرة) قبل شهور (وجاءت سكرة المنصب بالطيش) أحس البعض -أو هكذا ماتحوني- أنني أعني شخصاً بعينه أو دائرة بذاتها، وما كنت -علم الله- أريد إلا معالجة ظاهرة بدت تفوح روائحها المنتنة

ويَفُحُّ صوتها الأفعاوي، وهي ظاهرة الفساد الإداري الذي أصبح حديث المجالس ونبض الشارع العام، والناس لا ينطلقون من فراغ.

ولقد عولت على وقوعات لا يمكن التستر عليها ولا صرف النظر عنها، والناس عبر تاريخهم الطويل يمرون بفترات تضعف فيها الأمانة وتفتر فيها العزمات وتستفحل فيها الأثرة والأنانية وتتطلب مبادرات شجاعة توقف الزحف نحو الهاوية، وهل بعد فقد الأمانة من خسارة؟.. ودولتنا الرشيدة عوَّدتنا على التسديد والمقاربة وترك الفرص المناسبة لتصحيح الأوضاع وتدارك الأمور، ولكنها لا تهمل ولا تدع الحبل على الغارب. وقد يظن البعض أن طول الفرص المتاحة لمراجعة النفس عقلة أو إهمال، وذلك الظن السيئ أردى كثيراً من ضعاف النفوس وأوقعهم في سوء ظنهم.

وحادثة (جدة) مأساة، بل كارثة بكل المقاييس، ولا يمكن تجاوزها أو التستر عليها، وأحسبها من نعم الله على البلاد، فقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت، والحياة لا تصحَّح أخطاؤها إلا بالآيات والنذر المغنية.

وها نحن بمشاعرنا وتداعياتنا بالمواساة والتألم نجسد ذلك بأمر ملكي يعد مفخرة لكل مواطن، فالملك لسان حال الأمة ومجسد مشاعرها والناطق بلسانها، وقديماً قيل (الناس على دين ملوكهم) وهو -حفظه الله- بعزماته يعكس أخلاقيات البلاد الكامنة، فالأمة بخير وستظل كذلك ما دامت تتحمل من خلال رموزها كل الهنات، ولا تقيم على ظلم أو ضيم يراد لها، وتعبِّر عن واقعها بشجاعة وثقة وتبادر الأزمات في ساعات العسرة.

والملك عبدالله بوصفه جماع هذه الأمة عرفت عنه ضربات المعلم والخروج في اللحظات المناسبة في اللقاءات والمؤتمرات، وفي قضايا أمته المستعصية، والناس في لحظات اليأس والإحباط يظنون كل الظن استحالة الخروج من المآزق وحين تختلط الأمور وتدلَهمُّ الآفاق ولا يعرف الغادي الذي هو رائح هل ستأتي ساعة الفرج والانفراج، وهكذا كان الأمر الملكي الحكيم المتوازن اعترافاً بالتقصير وتحملاً للمسؤولية ورفعاً للحصانة عن أي مسؤول كائناً من كان، وأخذاً عادلاً بالجرائر وضماناً للحقوق المهدرة وتعويضاً للمنكوبين ومواساة حانية للمفجوعين.

إنه أمر حكيم متوازن يخفق بجناحي الشجاعة والحكمة: الشجاعة في الاعتراف بالواقع وتحمل المسؤولية وكشف المستور والشفافية، والحكمة بحيث لا يتعدى الاقتصاص ويمس قوماً بجهالة على حد: ?قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُون?.

فمن الظلم الاهتياج الأعزل والارتباك وتحميل الجرائر من لم يقترفها. لقد شكلت لجنة على أعلى المستويات لتقصِّي الحقائق، وجمع المعلومات وفض المنازعات وتوزيع الإعانات والتعويضات والتعرف على الأسباب المؤدية إلى هذه الكارثة الإنسانية، إذ ربما يكون الضحية طرفاً فيها، وملك الإنسانية بحكمته ورويته وبعد نظره حين فرغ من مسؤوليته العالمية في الحج وحقق نجاحات مبهرة في أحلك الظروف توجَّه إلى موقع الحدث بعدما سبقه إليه المنقذون والمعالجون ليقول للضحية والمذنب: (ها أنذا)، بكل توازنه وأناته وإحساسه العميق بفداحة الصدمة.

والمسؤولية اليوم خلعت من رقبة الملك وشعبه الوفي وأنيطت باللجنة المنتقاة من كفاءات الوطن المتوفرة على المعرفة والخبرة، وعليها -بقيادة الأمير المؤمل منه كل خير- أن تشفي صدور قوم مؤمنين يتجرعون مرارة الصدمة ويودون ألا يضيع دمهم بين قبائل المسؤولين، بحيث تنصف المظلوم وتضرب على يد الظالم، فما عدنا نحتمل نكبات مماثلة ولم تعد فينا استطاعة أن نسمع نبض الشارع المستاء ثم لا نجد حلولاً تعيد له إشراقة الأمل.

حفظ الله البلاد والعباد وقادتها من كل سوء، وعسى ألا يكون مكان بعد اليوم للمتلاعبين بمقدرات البلاد ممن يخونون الله ورسوله وأولي الأمر منهم.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد