Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/12/2009 G Issue 13583
الأحد 19 ذو الحجة 1430   العدد  13583
رسالة (السّماء).. إلى مدينة اسمها (جُدّة)..؟
حمّاد بن حامد السالمي

 

عرضت وسائل إعلامية متعددة مشاهد وصوراً تمثل آثار الأمطار والسيول التي هطلت على جنوب وشرق مدينة جدة، صبيحة يوم الأربعاء الموافق الثامن من شهر ذي الحجة. لم أصدق أول الأمر أن هذه الصور المفجعة هي من الطريق....

.... الدائري (طريق الحرمين)، ولا من أحياء مكتظة بالسكان مثل: (قويزة، والعدل، والجامعة، وبني مالك، والمنتزهات، والروابي، والسليمانية).. هذه أحياء يفترض أنها مكتملة الخدمات العامة، وعلى رأس هذه الخدمات الضرورية: شبكة للصرف الصحي، وتصريف السيول وتحويلها عن الدور والمتاجر والشوارع والميادين.

شاهدت أرتالاً من السيارات وهي فوق بعضها البعض، وأخرى متهشمة أو مدفونة بالكامل في الرمال، وأناساً محتجزين في الأنفاق، أو حُبُسَاً في مساكنهم؛ لأن السيول تحيط بدورهم من كل جهة، وعشرات آخرين فقدوا حياتهم غرقاً في سيول الأودية، التي تحيط بجدة من جنوبها وشرقها، وتهدد حياتها في كل وقت.

لو قيل لي قبل هذا الطوفان العظيم إن هناك ستة عشر وادياً على أطراف جدة، وهي ما زالت مثلما كانت من قبل، تهدد جدة؛ فتصب سيولها في جوف هذه المدينة الكبيرة، لما صدقت البتة. كيف أصدق أن مدينة مثل جدة، يسمونها عروس البحر الأحمر، ونحن نظنها - وبعض الظن ليس بإثم - أنها ثاني مدن المملكة، حركة وعمراناً وتطوراً، والأهم من ذلك: اكتمالاً في مشاريعها وخدماتها التي - يفترض - أنها توفر لأربعة ملايين ساكن سبل الأمن والطمأنينة والعيش الكريم.. كيف أصدق أنها حتى يوم الناس هذا عاجزة عن تصريف مياه الأمطار، عوضاً عن توقيها للسيول الجارفة التي تهدد حياتها، وتدمر بنيتها التحتية..؟!

لم أكن لأصدق أن جدة مدينة تفقد حاسة الاستشعار بمخاطر السيول والأمطار، حتى لو ثبت عندي أنها فقدت حاسة الشم منذ عقود مضت وما زالت..! فهي مدينة مزكومة بروائح المجاري من كافة جهاتها، وبحيرة الصرف المكشوفة التي تلوثها بيئياً، حتى غدت رابع مدينة في العالم في نسبة التلوث، تسميها سخرية أو تهكماً أو تيمناً: (بحيرة المسك)..! فهي إما أنها تتخفف من حقيقة واقعها المؤلم، أو أنها فعلاً لا تشم إلا ما تريد هي شمه، حتى لو أتى هذا من مياه صرف صحي، لم تفلح في طمرها وإجرائها تحت الأرض إلى أمكنة بعيدة عن أنفها، حتى البحر ناله من هذا (المسك الجداوي) المؤذي الشيء الكثير؛ فهي جُدة.. التي يقولون عنها: (جُدة غير)..!

ومن غرائب وعجائب جُدة أنها تعاني، مثل مثيلاتها في المنطقة الغربية، من العطش صيفاً وشتاءً، ثم تبقى متفرجة على مياه السيول والأمطار وهي تكتسح شوارعها، وتخسف بأرصفتها وأشجارها وأعمدة النور فيها، وتتلف مئات وآلاف السيارات، وتذهب بأرواح العشرات من الناس.. فلماذا لم تفكر جدة قبل طوفان الأربعاء في حماية نفسها أولاً من خطر السيول، والاستفادة من هذا الكم الهائل من المياه الذي ملأ الأودية، وفاضت به حتى أغرق ودمَّر ما لم يكن في الحسبان..؟

أين هي السدود التي تحجز مياه السيول، وتوفر مخزوناً مائياً كبيراً، يمكن أن يسهم في التخفيف من شح مياه الشرب الذي ما زالت جدة تعاني منه، أو يُحوّل للتخضير وتحسين البيئة الجغرافية حول مدينة مزكومة ب(المسك)..! هذا المسك الذي يجري ويصب على وجه الأرض على طرف جدة..؟!

لماذا لم تستفد جُدة تحديداً من التاريخ..؟ هل هي أمية لا تقرأ، أو أن ذاكرتها ضعيفة..؟ فقبل سبعين سنة عم مدن المنطقة الغربية أمطار وسيول بدأت من الفجر حتى الغروب، وسمى الناس هذه الحادثة ب(سيل الربوع)؛ لأنها وقعت في يوم أربعاء، وافق 6 ربيع أول 1360ه، وفيه سالت أودية كثيرة عدة مرات، ووقع نتيجة ذلك خراب ودمار، شمل دور الناس ومزارعهم، وغرق بشر في القرى والمدن، ودخل السيل الحرم المكي، وطاف الناس حول الكعبة سباحة، وتكرر حادث (الربوع)، بسيوله وكوارثه على مكة وما حولها، فكان سيل ربوع سنة 1376ه، وسيل ربوع آخر سنة 1384ه، وسيل ربوع أكبر منهما في الرابع من ذي القعدة سنة 1388ه، وقد أحدث آثاراً شبيهة بما سبق، ولم تنجُ جدة من أخطار لحقت بها في تلك الأيام الخوالي، وظلت جدة - وما زالت - عرضة لمخاطر السيول.. بل الأمطار.. حتى أن أهلها يقولون: (جدة تغرق في شبر موية)؛ فالأمطار إذا نزلت على جدة تؤثر فيها سلباً أكثر من غيرها؛ نتيجة لتشبع أرضها بالرطوبة؛ فهي تقع على مستوى سطح البحر، ولأنها بدون مجاري تصريف لمياه السيول؛ فتظل المياه ناقعة مدة طويلة حتى تُكسح، لتسبب أذى كثيراً للسكان، من أقله انتشار البعوض والروائح الكريهة، وربما تكونت بحيرات داخل الأحياء؛ فحالت بين الناس ودورهم أو الخروج منها، وهذا عشته بنفسي قبل عدة أعوام في وسط جدة، عندما داهمتنا سيول قادمة من وادي بني مالك؛ فتحول شارع فلسطين إلى نهر، لا تجوزه السيارات، إنما القوارب التي شاهدناها تمخر برجال الدفاع المدني في شوارع وميادين جدة في مطر الربوع الثالث قبل عدة أيام، هي الأقرب للحركة فيه.

أعتقد أن أمطار وسيول الأربعاء التي هزَّت جنوب وشرق جدة مؤخراً، هي رسالة من السماء لأهل الأرض.. رسالة بليغة لمدينة جدة، بأن تنتبه إلى أنها وهي التي تغرق في شبر ماء، يمكن أن يُخسف بها في شبرين أو ثلاثة بعد ذلك.. لقد دامت أمطار الأربعاء الأخيرة على شرق وجنوب جدة ست ساعات فقط، ورأينا بأم أعيننا الذي حدث من زهق لأرواح، وتدمير لممتلكات، وذعر ما بعده ذعر، فكيف لو شملت هذه الأمطار بقية أجزاء جدة، وسطها وشمالها وغربها..؟ وكيف لو استمر هطول الأمطار نهاراً كاملاً كما حدث في سيل (الربوع) الذي مضى قبل سبعين سنة..؟!

إلى متى وجُدة تتجه بوجهها إلى البحر، وتترك بَرّها من جهاته الثلاث، في ضمير الغيب..؟



assahm@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد