أنهت الأزمة المالية التي عصفت بالعالم وأدت لتراجع حاد بالاقتصاد العالمي عامين تخللهما إجراءات غير مسبوقة من ضخ تريلونات الدولارات بالنظام المصرفي العالمي وكذلك قامت الدول الكبرى بالغرب منبع الأزمة برفع رساميل البنوك لتعزيز مقدرتها على الخروج من دائرة الإفلاس بخلاف خطط التحفيز التنموية..
.. التي أقرت باجتماعات مجموعة العشرين، وظن العالم أن الأزمة أصبحت خلفه وما يجري الآن ما هو إلا مراقبة سرعة وتيرة تفاعل الحلول التي وضعت على الاقتصاد العالمي.
غير أن الأخبار التي جاءت من دبي عن طلب كبرى شركاتها المملوكة حكومياً والتجارية الطابع رغبتها في تأجيل سداد ديونها لمدة ستة أشهر أيقظ المخاوف من جديد لدى العالم بأسره، فكان ان هبطت أسواق المال من الغرب إلى أقصى الشرق على الرغم من محدودية الأرقام التي أعلن طلب تأجيل سدادها، لكن الذعر جاء من توقعات متشائمة بتكرار الحدث في مناطق ودول أخرى مستقبلا، فدبي من الخليج الذي اعتبر الأقل تضررا والأكثر أمانا من الأزمة العالمية كما يصنف على انه لاعب رئيسي بتحريك عجلة النمو الاقتصادي العالمي وسيسبق غيره من المناطق الجغرافية العالمية بذلك.
ورغم ان تبديد المخاوف جاء سريعا بعد ان أعلنت دبي العالمية خطتها لاعادة جدولة ديونها القصيرة الأجل المقدرة بحدود 26 مليار دولار وعوضت الأسواق أكثر خسائرها، لكن أجواء القلق ما زالت تلبد سماء الاقتصاد العالمي بالغيوم مع ضباب بدأ يتشكل حول الأسواق عامة، واكتظت الساحة الإعلامية بسيل من الأسئلة التي ذهبت إلى حد السؤال عن كل ما تم إنجازه دولياً إلى الآن، بل وعبر عن ذلك مسؤولي الاتحاد الأوروبي ورئيس وزراء روسيا الاتحادية الذين اعتبروا الأمر يظهر صعوبة الخروج من الأزمة العالمية كما ظن البعض.
حقيقة ان دبي اختبرت مكانتها العالمية عن غير قصد ولاول مرة تسقط أخبار من دول العالم الناشئ أسواق أمريكا وأوروبا وآسيا وهذا نتيجة للعولمة بالدرجة الأولى وكذلك لعمق الارتباط بدبي من تلك الأسواق، فاغلب ديون الإمارة من بنوك بريطانية وأمريكية وفرنسية وغيرها وإذا كانت عوامل الإقراض عند دراسة الجدوى ما زالت قائمة كالموقع الجغرافي وكونها بيئة صحية لتكون منهاتن الشرق الأوسط، فاليوم يبدو كل ذلك بنظرهم لا قيمة له فالجميع اقرض بقصد الطمع ليس اكثر واعتبروا الضامن حكومة دبي المالك لتلك الشركات ومن الوجهة العملية هي مرجعية لتلك الشركات فعوائد وفوائد المشروعات لها، وهنا ستظهر إشكالية التعامل المستقبلي مع أي شركة مملوكة للحكومات بدول الخليج إذا ما طلبت قروضا من الخارج فتوضع الحكومات أمام خيار وحيد وهو ان تضمن شركاتها أمام الدائنين مما سيشكل ضغطا كبيرا على تمويل المشروعات المهمة أكثر من الوقت الراهن فالثقة ضربت في مقتل بعد أوضاع دبي.
واي دولة خليجية أو عربية لا تملك احتياطات كبيرة ستتوقف عجلة التنمية بها لانه لن يكون هناك تمويل لاحتياجاتها الاستراتيجية وهو الأمر الذي يفتح مجددا الباب للتساؤل عن عدم وجود بنوك كبيرة جدا لدينا تستوعب الأموال والأرصدة التي ضخت بالخارج في اوقات سابقة ليتم الاعتماد عليها بكل الأوقات الحلوة والمرة معا، وهذا ما يفسر إعلان أمين عام مجلس التعاون الخليجي أن القمة القادمة ستشهد إطلاق بنك للتنمية بدول الخليج ليكون ممولا لمشروعاتها عند الحاجة بدلاً من الاعتماد على البنوك الخارجية.
كما أن ما حدث بدبي ليس إلا إشارة حقيقية لكل بؤر المضاربة بالعالم بأن فقاعتها ستنفجر يوما ما حتى اقتصاديات الشرق الأقصى لن تكون بمنأى عن ذلك فجل ما تحقق من نمو بدبي كان سريعا بالمعايير العالمية مما يعني أنها كانت بفعل المضاربة التي فجرت الفقاعة العقارية لان اغلب الاستثمارات التي تعاني هي من هذا القطاع تحديداً ولم تكن بناء على طلب كبير؛ وهذا ما أدى بالأموال الأجنبية لتبدأ انسحابها من دبي قبل اكثر من سنتين تقريباً لتظهر مشكلة نقص السيولة بشكل كبير أوصلهم لطلب تأجيل السداد كإحدى المراحل الصعبة أمامهم وليس آخرها.
فإنكار الأزمة من قبل كان لابد ان يكون عملاً وليس شعارا فقط هدفها ترقيع ثقوب النفسيات المحبطة، وكنت قد كتبت قبل ذلك مقال عن أننا نعيش مرحلة إنكار الأزمة بالشرق الأوسط عموما وان هذه المرحلة يجب ان تكون مدروسة، فالإنكار أحد الحلول لكن تتماشى معه إجراءات تغطي جوانب القصور حتى تخرج من الأزمة تماما لكن يبدو ان كشف الحقائق بهذه الصورة يهز الثقة بكل ما أعلن وسيؤثر حتى على الذين يسيرون وفق خطط ناضجة وان كان لفترة مؤقتة.
ان ما حدث لدبي لابد من تحرك حقيقي عالمي له لاعادة فحص الإجراءات التي تم اتخاذها، فأي أزمة تظهر مجددا في أي مكان بالعالم ستقلب الأوضاع رأسا على عقب وتعيدنا للمربع الأول فمثلما تم قياس الجهد للبنوك في اغلب دول العالم يجب ان يقاس الجهد على مستوى الدول وإذا كان من عنوان عريض يجب ان يرسخ كقانون ومعيار يعمل به وليس حبرا على ورق فهو الشفافية لأنها الرصيد الذي يجب أن يكون البند الأول لمعيار التعامل الدولي واساس الانضمام لمنظمة التجارة العالمية وطلب العون والقروض فبدونه يصبح كل شيء في مهب الريح.