لم تعد هذه العروس الساحرة المدللة تملك اليوم شيئا تزهو به علينا نحن أبناء المناطق الأخرى مثلما اعتادت لزمن طويل. كنا أهل الرياض والمدن الكبيرة في المملكة نصاب بالقهر ونحن نسمع الجميع يردد: جدة غير.. جدة غير؟؟!! ولم نكن نملك مخالفتهم؛ فجدة فعلاً كانت غير بحلاوتها وخفة دم ساكنيها ولطفها مع القريب والغريب وتسامحها المشهود ونهضتها العمرانية وجماليتها الجغرافية.
فجأة انقلب السحر على الساحر، وانفض المحبون، وكشفت الجميلة عوراتها للقاصي والداني، وبدأت في أكل لحمها وأرواح ساكنيها، وها هي حتى اللحظة تحاول في صعوبة التقاط أنفساها دون أن تتمكن من ذلك.
درس المدللة اللاهية يوقظنا على كثير من الحقائق المفجعة.. أولها ضعف المستوي الفني للقطاعات المختلفة لإدارة الأزمة؛ فقد تتوافر الإمكانات والنيات الحسنة لكن ضعف مستويات الأداء الذي تعاني منه هذه القطاعات أصلا يضخم حين وضعنا في قلب الفاجعة، ولم يكن الأمر قاصرا على قطاع الأمانة أو الشؤون البلدية والقروية أو مصلحة الأرصاد أو غيرها نعم.. لم نتوقع شيئا بهذا الحجم، لكن الرجال كما نردد يظهرون عند الشدائد، فلماذا تقزمت هذه القطاعات وغيرها ذات العلاقة ولم تكن بحجم ما حدث؟؟
الدرس الأشد هو كيف نتعامل مع هذا المارد الذي يستعر في حياتنا وأجهزتنا، واسمه المبسط (الفساد)، وعنوانه الأكبر (ضعف النفس البشرية) وعدم وجود آليات للرقابة الشعبية، وكما قال أحد العاملين في الميدان من قلب جدة:
(تركيز الغضب الشعبي على الأمانة سيجعل الأمانة تظهر وكأنها نقطة فاسدة في محيط من الصلاح، والحقيقة أنها جزء من نظام أكبر وجزء من فساد عظيم يعم غيرها من المؤسسات. علينا أن ندرك أن الأمانة ليست المسؤول الوحيد عما حصل، يجب أن تتم مساءلة الأمانة والمجلس البلدي ووزارة الشؤون البلدية والقروية والمحافظة والرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة وهيئة المساحة الجيولوجية والمقاولين والشركة الوطنية للمياه.. إلخ، ليس لأنهم بالضرورة مذنبون، ولكن لكي يتبين بالتحقيق معهم أين يكمن الخلل بالضبط).
الغضب الشعبي يجب ألا يتم امتصاصه بإزاحة مسؤول ما بحيث تهلل الصحف وترحِّب ويخف غضب الناس وإحباطهم فيطمئن المجرمون الحقيقيون حينما يتم نسيان أمرهم ويستمرون في التمرغ بملذات وحصص فسادهم دون أن تطولهم يد المحاسبة. يجب ألا يتوقف الناس عن المساءلة حتى يتم فعلاً أخذ مشاكل المدينة بشكل جاد وإيجاد حلول جذرية لأوضاع ستتفاقم سوءاً مع الزمن. الذي تم كشفه من ضعف البنية التحتية للمدينة ما هو إلا قشرة ضعيفة تغلف مشاكل أكبر يجب التوقف عندها؛ فالانهيارات الغريبة التي شاهدها المسعفون والمتطوعون مثلا يوضح أن تربة جدة في كثير من المناطق غارقة في مياه المجاري التي لم يوجد لها تصريف؛ ما ساهم في سرعة حدوث هذه الانهيارات.
الإشاعة كان لها نصيب الأسد في التضخيم أحياناً أو حتى في التقليل مما حصل في المدينة المدللة، ولك فقط أن تجلس وتنصت للأحاديث الجارية بين الناس في الطرقات والمجالس وتسمع الأرقام والإحصاءات التي يرفقها كل متحدث بثنايا كلامه ليؤكد مصداقية ما يروي؛ حيث سمعنا عن المليارات وأعداد لا تحصى من الموتى والمفقودين ومبالغات لا تخدم الحدث وتناقضات لا يمكن قبولها منطقيا، والجميع يدافع عن وجهة نظره باعتبارها هي ما يمثل قلب الحقيقة، وهو ما يدفعني إلى أن أتمنى على كل من ينوي فتح فمه للحديث حول هذه الكارثة أو غيرها أن يسأل نفسه: هل أحب أن يتحدث الناس عني بنفس الطريقة وبالدرجة إياها من عدم الدقة؟؟؟
الوجه المشرق في المسألة أن كارثة جدة عرفتنا بقدرات هذا المجتمع الكامنة وقدرات شبابه وشاباته، وسأتحدث عن هذا الأسبوع المقبل، لكن الذي أذهلنا هو قدرة التكنولوجيا على جعل الجميع تحت نيران المعرفة وعصر المعلومات؛ فلا يمكن لأحد أن يختبئ مطمئنا وينام قرير العين دون محاسبة.
الناس عبر أجهزتها ووسائل اتصالها (الجوالات، البريد الإلكتروني، الفيس بوك) تمكّنت من خلق حالة لم نعتدها من حالات مزج الحالة العامة والمزاج الشعبي ليكون سوطا يضرب فوق ظهور المقصرين. قدرة الناس على استخدام الإنترنت كإحدى وسائل الضبط المجتمعية وقدرتنا كمجتمع على استخدامها لا شك سترعب الكثير من الأفراد والعديد من الأجهزة. أظن أن قلوبا كثيرة ترتعش الآن في مدننا وقرانا خوفاً من أن يأتيهم الاختبار لمؤسساتهم وكفاءة أجهزتهم، ولا شك أن اليوم السبت سيشهد الكثير من عمليات التصحيح الصامتة في الإدارات المحلية خشية اختبارات الطبيعة المفاجئة.
لكن لنذكر أنفسنا أننا ورغم الفاجعة في النفس والبلد إلا أننا يجب أن نهنئ بعضنا البعض وتحت ظل قيادة حكيمة ومتوازنة أننا تمكنا من العبور بجسارة ومهارة عبر سحب أربع خطرة تجمعت كلها في وقت واحد فوق سماء هذا البلد الآمن، وكان يمكن أن تلون حياتنا بشكل مأساوي، أولها رعب إنفلونزا الخنازير الذي اجتاح العالم، وثانيها حلول موسم الحج في وسط هذا الرعب مع أكثر من مليونين ونصف المليون من الحجاج، وثالثها دخولنا كطرف في حرب لا نرغبها في الجنوب، ورابعها - وهو بإذن الله آخرها - هو فاجعتنا في محبوبتنا جدة وما يحصل فيها اليوم، وكلها قضايا جادة تداخلت مع بعضها البعض لتختبر قدرات الأفذاذ من الرجال الذين انضووا تحت قيادة خادم الحرمين فلم نشعر كمواطنين بشيء، ومرَّت الأزمات بسلام نحسد عليه، وكل ما نتمناه الآن أن نكون قادرين على إدارة الأزمة الرابعة في جدة الحبيبة بنفس القوة والصلابة كما عودتنا هذه القيادة.