فتحت كارثة جدة الباب مجدداً أمام المطالبة بمحاسبة المسؤول، وجاء قرار القائد حفظه الله متجاوباً ومؤكداً أن للجنة التحقيق الصلاحية التامة في استجواب أي مسؤول مهما كان، وتعتبر المحاسبة أحد أهم متطلبات الدولة الحديثة، ولا يمكن لأي تنمية أن تستمر وتنتج وتثمر بدون مساءلة أو مراقبة للأداء الحكومي، وذلك أولاً لمنع التلاعب بثروات الدولة ودخلها الوطني، وثانياً لضمان تنفيذ المشاريع العملاقة، وبالتالي محاسبة المقصرين في تنفيذ المشاريع العامة، وما حدث من خطوة هامة للقيادة العليا هو حركة تصحيحية في اتجاه المستقبل، وقد تقود إلى مأسسة المحاسبة في أداء الحكومة.
كذلك بينت تبعات الكارثة أهمية الإعلام في التغيير، فقد اهتزت أركان الإعلام المحلي بسبب كارثة جدة، ويدل ذلك على ارتفاع مستوى حرية التعبير، وأن النخبة والعامة على حد سواء يريدون السعي في طريق الإصلاح الذي بدأه عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله.. وأن الحل الوحيد للخروج من أزمة الثقة بين المواطن والمسؤول هو في رفع معدلات الشفافية والنزاهة.
علمنا التاريخ الحديث أن لا سبيل للاستقرار والخروج من أزمات الاقتصاد والفساد إلا باتباع ما أثبت نجاحه في الدول العصرية، والتي طورت من أنظمتها من أجل تقليص البيروقراطية وتعميم أنظمة المراجعة والمحاسبة والمساءلة، وقد جاء مصطلح مسؤول من أنه يعمل تحت طائلة السؤال والمراقبة، لكن يظل السؤال الأهم عن كيفية تنظيم المساءلة في مستقبل الأيام وفي ظل تنامي المشاريع العملاقة، فاللجنة الحالية والتي تحظى باهتمام القائد حفظ الله تتحمل مسؤولية تاريخية، وإذا لم تقدر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها وتضع النقاط على الحروف في حق أولئك الذين تلاعبوا بالثقة الملكية، ولم ينفذوا المشاريع كما تم التخطيط لها، ستولد كارثة أخرى، وهي عدم الثقة في تنفيذ المشاريع الحالية والمستقبلية، وهي حالة غير صحية، وستؤثر على جودة تنفيذ الخدمات في المستقبل.
نعيش في كنف وطن أقرب للقارة في مساحته وثرواته، ويحتاج إلى عمل دؤوب ومستمر من أجل توزيع حصص التنمية على مختلف المناطق، ويتطلب ذلك استكمال مشروع المحافظات، وإلى استحداث أنظمة إدارية حديثة مهمتها توزيع المهام على مجالس المنطقة، والسبب أن النظام الوزاري الحالي والقائم في أن تقوم الوزارة بالتخطيط والتنفيذ في مختلف المناطق جعل من أمراء المناطق ومجالسها غير مخولين بالمشاركة الفعالة في تنمية مناطقهم، كما أن التخطيط لانتخاب مجلس المنطقة أسوة بالمجلس البلدي سيعطي مشروع الدولة الإصلاحي دفعة إيجابية للإمام، وسيمنح مؤشر الثقة مساحة كبيرة من التأييد بين النخبة والعامة.. وسيجعل من مهمة أمير المنطقة أكثر مرونة في إدارة شؤون المنطقة، وفي تقصي قضايا المراقبة والمساءلة.
خلاصة القول أننا في حاجة ملحة إلى وسائل التحديث في العصر الحديث، والتي تتوافق مع نصوص الإسلام الصريحة، ومع المبدأ العمري الشهير (من أين لك هذا)، وبغض النظر عن ثقافة المصطلحات، علينا الأخذ بالأنظمة التي تؤسس للأداء والعمل في أجواء قاعدتها النزاهة والشفافية، وسقفها أن لا أحد فوق القانون، وأن يفصل المسؤول مهما كان بين الخاص والعام، إذ لا يصح أن تُمنح المناقصات حسب المصالح الخاصة، ومن المفترض أن يكون لها نظاما وطنياً مستقلاً يعمل من أجل مراقبة دخل المسؤول قبل وما بعد المنصب، وأن لا ترتبط مسؤولية المراقبة بالمسؤول نفسه.
يرى المفكر السياسي الشهير جون لوك أنه سيكون من العبث أن نقول بأن الإنسان سيحاكم نفسه من خلال القانون فيما يتعلق بمصالحه الخاصة لأن حب الذات سيجعل الإنسان متحيزاً لنفسه ولأصدقائه، ومن هنا إذا لابد من الخروج من (حالة الطبيعة) إلى دولة نستطيع أن نشيد فيها محاكم وقضاة غير منحازين.