لم تنتابني الدهشة ولم أفاجأ بالأمر الملكي الكريم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- بشأن فاجعة جدة، وهي التسمية التي أطلقها -يحفظه الله- على ما شهدته جدة من أمطار أوقعت شهداء ودماراً وخراباً.
أقول إنني لم أفاجأ بالأمر الملكي رغم الشواغل الكبيرة والكثيرة لخادم الحرمين الشريفين في مثل هذه الأوقات من كل عام فقد كان -يحفظه الله- يتابع لحظة بلحظة من المشاعر المقدسة حركة الحجيج، ويقف على أمن وسلامة ضيوف الرحمن، ولم تشغله هذه الأمور الجسام من الانتصار لشهداء ومتضرري أمطار جدة، والقصاص من كل من سولت له نفسه بإمكانية خيانة الأمانة دون مخافة من الله ودون رادع من عقاب، فجاء أمر ملك الإنسانية ليطال كل مقصر وكل مخل بالأمانة من جهات وأشخاص، وليؤكد على أنه لا يمكن تبرير تقصير بعض الجهات في مهامها ومسؤولياتها أو إغفال ذلك، مع وجود الشجاعة الكافية للاعتراف بالتقصير والتصدي له بكل حزم.
لم يجمل ولم يجامل، ولم يخف شيئاً بل كان صريحاً كعادته، تحدث بقلب ملأه الحزن، وبفؤاد يعتصره الألم، فجاء القرار تاريخياً استشعر فيه خادم الحرمين الشريفين أن المواطنين والمقيمين أمانة في الأعناق وفي الذمة، وكان يتمنى -يحفظه الله- ألا يحدث ما كان، ولكنه قدر الله الذي لا مفر منه، ليأتي الأمر السامي بما اشتمل عليه من قرارات على قدر المصاب الجلل والخطب العظيم، بتشكيل لجنة برئاسة أمير مكة المكرمة للتحقيق وتقصي الحقائق حول فاجعة جدة يكون لها الحق في استدعاء أي مسؤول لطلب إفادته أو مساءلته عند الحاجة، وصرف مليون ريال لذوي كل شهيد وتعويض المتضررين.سارع خادم الحرمين بإصدار أمر ملكي شاف وواف وحاسم، أسف فيه على أن ما تعرضت له محافظة جدة مجرد أمطار تتعرض لمثلها الكثير من الدول المتقدمة، ودول أخرى أقل قدرات وإمكانيات من المملكة ولا ينتج عنها خسائر مفجعة كما شهدتها جدة.
وحزّ في نفس الملك عبدالله بن عبدالعزيز أن فاجعة جدة لم تأت تبعا لكارثة غير معتادة، بل نتجت عن أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية في إشارة على أنه لم ولن تقبل أي تبريرات لما حدث، ففي قلب وعقل وفكر خادم الحرمين الشريفين أن العبث بأمن وسلامة المواطن والمقيم أمر لا يمكن تجاهله أو التجاوز فيه، فهو ملك الإنسانية الذي ينحاز دوماً للمواطنين والفقراء والبسطاء والمحتاجين، ولا تأخذه في الله لومة لائم عندما يتعلق الأمر بأمن الرعية والمقيمين على ثرى هذه الأرض الطيبة.
وقد لمست هذه القرارات الملكية شغاف القلب وهزت قلوب المخلصين من أبناء هذا الوطن وأكدت أن ملك الإنسانية لا يتوانى في مثل هذه الأمور في اتخاذ قرارات حاسمة وحازمة، ومحاسبة أي مسؤول أياً كان لتظل هيبة الدولة راسخة في أذهان الجميع، ويبقى واضحاً في ذهن كل مسؤول أنه غير بعيد عن العقاب إن أخطأ أو قصر في أداء الأمانة الملقاة على عاتقه.
وبقراءة متأنية لما جاء في الأمر الملكي الكريم نخرج بعدة ملاحظات جديرة بالتوقف عندها، من بينها المنطلقات والأبعاد التي خرج منها والتي يتضمنها، فهناك المنطلق الوطني باستشعار -يحفظه الله- للمسؤولية وأن ما يزعج أي مواطن أو مقيم يزعج ولاة الأمر، فجاء المرسوم الملكي بوجه عام خارطة طريق يضعها خادم الحرمين الشريفين لليوم وللمستقبل لا تقف عند هذه الفاجعة، وإنما تتخطاها لضمان عدم تكرارها، وهو بيان شامل يضع آلية عمل لرجال الدولة، آخذاً في الاعتبار الأمانة التي وضعت في أعناقهم.
وهناك البعد الديني بما جاء فيه من آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة، ومن تبرئة للذمة أمام الله ووضع الأمر في ذمة لجنة التحقيق، ومن مساءلة للمقصرين اليوم قبل أن يسائلهم الله غداً، ومن رصد لموقف الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- عندما تبرأ من أفعال بعض أصحابه.
وهناك البعد الإنساني، فخادم الحرمين الشريفين كان يشرف على موسم الحج وقلبه وعينه على فاجعة جدة وعلى مأساة أهلها، إحساس إنساني جاشت به نفسه لما أصاب المواطنين والمقيمين والرعية من فاجعة وهو يتحدث حديثاً أبوياً عن هؤلاء المنكوبين، فكل متضرر يعتبره خادم الحرمين الشريفين أحد أبنائه أو إخوانه، فهو دوماً يشارك بأبوته الحانية ومواقفه النبيلة والحازمة المواطنين أتراحهم وأفراحهم، في تلاحم بين القيادة والشعب بصورة تعطي درساً واقعياً في الحكم الرشيد والإدارة المسؤولة، ودرساً في الالتزام التام بواجب أمانة التكليف ومسؤولية رعاية مصالح الأمة والبلاد والعباد التي عاهد الله تعالى على القيام بها بعد مبايعة الأمة له -حفظه الله- ملكاً للبلاد. وبرز بعد الشفافية والوضوح بالاعتراف بالخطأ ومحاسبة المقصرين بما يجسده هذا الموقف الراسخ والتوجيهات السديدة من حرص قيادتنا الرشيدة على حماية المجتمع من الأخطار ومعالجة آثارها وتحقيق راحة وسلامة المواطنين والمقيمين في كل الأحوال.ونتطلع بإذن الله تعالى ومشيئته أن تنتهي لجنة التحقيق من عملها سريعاً كما أراد خادم الحرمين الشريفين، بتشخيص ما حدث ووضع الحلول التي تتناسب مع عظم الفاجعة، على ذلك يشفي بعضاً من ألم أهالي وذوي الشهداء ويخفف من أحزانهم، تغمدهم الله بواسع رحمته.