ماذا قد يعني أن تكون على سفر لأسابيع أو لبضعة أشهر أو لعام أو عدة أعوام؟!
هل يعني أنك في حالة دهشة دائمة، ترى الأشياء بإحساس جديد وبأسئلة بريئة وكأنك لم تغادر الطفولة قط رغم ما تمر عبره من قيود الحدود من دولة لأخرى، ورغم الغصة التي تعتصر حنجرتك من جهامة ضباط الجوازات وأسئلتهم الاستجوابية اللزجة؟ ألا يعد ذلك الموقف في المطارات كافياً ليلوث أي هواء جديد بارد أو منعش ينتظرك خارج المطار؟
هل يعني السفر أن نعيش عنفوان العمر باندفاعه وحماسه وبما يعترينا فيه من طيش الاكتشاف ونعمة الشجاعة؟
هل تعني حالة السفر اختبار ملكاتك في القدرة على تجريب أشكال أخرى لحياة لم تعهدها في العادات والتقاليد ومذاق الأطعمة ومواعيد الصحو والنوم والوجبات، وفي أساليب السلام واللبس والحركة، وفي معايير القيم والنظافة والكفاية، وفي أنظمة المرور ووسائل المواصلات وخارطة الشوارع ورموز العناوين، وفي لغة التعبيرات العاطفية واتجاهات التفكير؟..
هل السفر هو العيش بين عالمين أو أكثر في لحظة واحدة، العالم الذي جئت منه والعالم الذي قدمت إليه بما يحتمل ذلك من الدخول في مأزق التضاد أو تمزق الذات بين أنيين في آن، الأنا التي أنت عليها والأنا التي أنت فيها، هذا عدا تلك الأنا التي يمكن أن تؤول إليها أو تتحول نحوها بمحض إرادتك أو بفعل السحر الخفي للسفر الذي قد يغير مجرانا فلا نعود من كنا حتى بعد رحلة الإياب؟..
هل السفر قلق مؤقت من ترتيب أمور استقرارك بالموقع الجديد أو اطمئنان مؤقت لمتعة التغيير، على ما في الموقفين من قياس دقيق لنسبة الصبر في دمك مقابل نسبة التحدي؟
هل يعني أن تكون على سفر أن تعيش شجن المقارنة بين غموض الغربة ووضوح الألفة، خاصة حين يجر الشجن إلى مقارنة سؤال الحرية في الحالتين بما يصعب معه التفريق بين حرية قد تكون في الحالة الأولى أمامنا إلا أننا بفعل الشعور بالاغتراب قد لا نعرف كيف نراها وإن رأيناها فقد لا نعرف كيف نتعامل مع بذخها، وحرية قد تكون في الحالة الثانية غير موجودة أو غائبة إلا أننا بفعل الألفة وخبرات البيئة قد نستطيع تخيلها أو اختراعها؟..
على أن سؤال العولمة عن حالة التشابه المملة التي تفشت على المستوى الاستهلاكي لحالة السفر والاستقرار معاً في المطاعم والمقاهي وهندسة الأسواق المغلقة (المولات) التي علبت مساحة السفر وطوت بُعده في قوالب وأسماء تجارية متناسخة في هيمنة عابرة للقارات من ناحية، والسؤال الوجودي من ناحية أخرى المتعلق بوقتية العمر البشري كحالة سفر ليس إلا مهما طال بنا المقام أو المستقر بين فكي كمائن الأمكنة يجعل من جميع الأسئلة أعلاه مجرد محاولة تأملية مترفة لأن نكيد للمجهول بأشواق المعرفة ولأن نزعج سلطات ما نعرف برغبة أن نتعرف على ما لا نعرف.
تصطك هذه الأسئلة بعظامي وتثير نشيجاً مكتوماً بين أضلعي عن حالات الحرمان من السفر وما قد تنسجه من أجنحة لأرواحنا أو ما قد تحيكه من شرائك لأحلامنا تجعل من يمرون بمضائق تلك التجربة يتطابقون بشكل جارح مع عنوان سيرة إدوارد سعيد الذاتية (out of place).
كنت أعبر شارع أوكسفورد المضاء في وضح النهار بأضواء أشجار الأعياد مشياً على الأقدام قادمة عبر أنابيب عدة محطات تحت أرضية من (المكتبة البريطانية بيوستن رود) حين كانت تلك الأسئلة تعبر في رأسي وتعبث بمحتوياته في تواطؤ مع قطرات المطر السخية التي لم يكن بيدي شمسية لأحتمي بها من أي منها. ما إن تركت ماربل آرش على يساري ودخلت إلى أدجور رود إلا وعاودني ذلك المقطع الذي لا يمحى لمحمد علوان عن المقايضة الرخيصة التي أعطى بها الإنجليز اليهود وعد بلفور، وأعطوا فيها العرب (شارع للشيشة ودكاكين للنميمة السياسية) كترضية عن كامل أرض فلسطين.
في صخب اختلاط الأعراق واللغات والملامح ولون البشرة وتعدد أشكال الهندام من الموديلات التي توحي باستمرار الظاهرة الهيبية بتجدد سنوي على الأقل على مستوى الأزياء إلى العباءات الخليجية والساري والبنجابي والبدل الإنجليزية الرسمية المرسومة حتى في ملابس النساء ب(هول بورن) و(نيتس برج)، و(ريجن ستريت) و(بيكاديلي سركس) وسواها من شوارع وسط لندن أو إن شئتم (بطحاء لندن) لم أملك إلا التلفت عدة مرات بحثاً عن شارع العليا علني أستعير، من شارع لم أمشِ فيه إلا بضعة سنتيمترات بين السيارة وبوابة مكتبة جرير، ألفة لغربتي من شوارع مشيت عليها وجبت أزقتها مئات المرات وفي مراحل مختلفة من عمري منذ كنت طالبة صغيرة. وكان سؤال الفارق بين حرية الاغتراب وحرية الألفة يلف في رأسي كلما تلفت دون أن ألمح إجابة محددة تتحدى حنيني أو تحل حيرتي.
فوزية الجار الله
كنتُ لم أشرع في كتابة المقال عندما التقيت الكاتبة والقاصة التي أفتقد حرفها كما تُفتقد شمس في يوم بارد، وكما يُفتقد عرق نعناع في لحظة جفاف. كانت قادمة إلى لندن من مدينتها الدراسية (هتفييلد) ليوم العيد ولبعد الظهر فقط؛ حيث كان عندها محاضرات طوال فترة الصباح. وحين غادرتني آخر النهار وجدت أنها لم تفعل ذلك تماماً، فقررت أن أكتب المقال بتلك الأسئلة التي شعرت أن عدداً منها تدور رحاها في نفوس الكثير من طلابنا المغتربين سواء هنا ببريطانيا أو بأمريكا مما لمسته أيضا حين كنت قبل قليل هناك. أما خاتمة المقال فسأتركها لتلك الصورة النفاذة التي تركتني زيارة فوزية أحمضها على طريقة الصور ما قبل الديجتال في مساءاتي.
(كانت طالبة سعودية تدرس بمكتبة جامعتها إلى ما بعد منتصف الليل. أما وقد تأخر الوقت على أن تغامر بالخروج للعودة إلى سكنها، فقد واصلت الانكباب على كتبها إلى أن طلع النهار، صلَّت الفجر بالمكتبة، امتشقت إرادتها ومرحها السريالي، شربت قهوة سوداء مُرّة لتهزم سلطان النوم بقية اليوم. مدت قامتها، أحكمت حجابها وأطلقت غناء غمازاتها ليوقظ عصافير الغابة التي تقع بها مباني الجامعة، وذهبت لحضور محاضراتها بروح تقطر ملاحة وحبوراً طفولياً وعناداً معرفياً لا يقاوم).
Fowziyah@maktoob.com