مرّ على الجزيرة العربية حين من الدهر وهي تنعم بوفرة مياهها من خلال الأودية، التي تسيل بمواسم منتظمة، والعيون المتدفقة التي يجري ماؤها على سطح الأرض ليلاً ونهاراً.. ومع بدائية الوسائل والإمكانيات إلا أن أجدادنا كانوا أفضل منا تفكيراً وتخطيطاً، إذ تمكنوا من استغلال تلك المياه المتدفقة وتصريفها تصريفاً ذكياً واستثمارياً،
فأشادوا السدود والوضائم -جمع وضيمة- وحفروا القنوات من أجل تصريف الماء وتوزيعه على الأهالي بطريقة عادلة، فضلاً عن المحافظة على التربة وسلامة البيئة، ودرءاً للأخطار والأضرار التي تنتج عن نشوء المستنقعات وتراكم المياه الراكدة.. ثم مرت سنوات انخفضت فيها المخزونات المائية الجوفية في بلادنا بسبب التصحر والانخفاض السنوي لمعدل مياه الأمطار، ثم بسبب الاستنزاف الجائر للمياه الجوفية بعد دخولنا عصر الطفرة والاندفاع في المشاريع الزراعية، مما أدى إلى غور الآبار، وتوقف جريان تلك العيون المائية، فلم يبق منها إلا قنواتها لتكون شاهداً على حضارة بشرية تنم عن عبقرية وتقدم، وفيها عبرة لمن يعتبر، ومجال واسع للدراسات الآثارية الغائبة!.
ومن المفارقات الغريبة في السنتين الأخيرتين أن يرتفع منسوب المياه الجوفية في منطقة السر الواقعة على بعد 300 كيل تقريباً إلى الغرب من الرياض، وأن يستمر ذلك الارتفاع إلى أن يصل مستوى جعل بعض العيون تعاود تدفقها لتدفع الماء بغزارة فوق سطح الأرض، ولينساب في كل اتجاه، وليغمر المزارع القائمة تدريجياً، ولتتحول المنطقة في زمن قصير إلى مستنقعات عشوائية ضارة، إذ أغرقت المياه المالحة التربة، وغمرت أشجار النخيل والمزروعات فدمرتها، ثم زحفت على المساكن فحاصرتها، مما أجبر أصحاب المزارع إلى الخروج من مزارعهم وقراهم وترك منازلهم التي حاصرتها أسراب البعوض. أما نبات القصباء الذي انتشر بسرعة فقد حول المنطقة إلى أدغال تشكل عائقاً لوصول السكان إلى منازلهم وأملاكهم، و تجعلها مرتعاً للعمالة غير النظامية، وربما للصوص ومروجي المخدرات والممنوعات!
ورغم نداءات الأهالي ومطالباتهم للجهات المختصة، إلا أن تلك النداءات لم تجد استجابة، علماً أن بعض مسؤولي الوزارة قد زار المنطقة واطلع على الوضع، ومع ذلك فإن الوزارة لم تتحرك، ولم تحرك ساكناً حتى هذه اللحظة!
لقد كان من السهل التعامل مع هذه المياه، وتحويلها إلى نعمة بدلاً من تحولها إلى نقمة، وذلك من خلال دراسة المشكلة دراسة جادة وواعية، وربما كان من أيسر الحلول إيجاد قنوات خرسانية لتصريف المياه وتوجيهها توجيهاً مدروساً ليستفيد منها المزارعون، وينتفع بها الأهالي الذين يعانون من قلة المياه. ولأن تلك المياه تحتوي على نسبة من الملوحة تجعلها غير صالحة للشرب، لكنها صالحة للبناء والزراعة والنوافير الجمالية، وللشرب بعد تحليتها.. فضلاً عما في تصريفها السليم من إنهاء لمعاناة المواطنين في المنطقة..
كما أنه يمكن أيضاً تحويل الفائض من هذه المياه المتدفقة بغزارة واستمرار إلى بحيرة صناعية نظيفة، وتشكيل منطقة سياحية مائية على غرار بحيرة دومة الجندل أو غيرها؛ خصوصاً وأن المنطقة مهيأة لذلك لوجود أماكن يمكن استخدامها كبحيرات طبيعية واصطناعية، مثل فيضة مطربة في عين الصوينع أو غيرها.
وأود هنا أن أذكر بعض الإخوة الذين كتبوا في هذا الجريدة يطالبون الوزارة بضخ مياه البحر عبر وادي الرمة الذي يرتفع عن سطح البحر بأكثر من 500م؛ أن الوزارة لم تستطع التعامل مع مشكلة عيون السر ولم تستفد من هذه المياه المتدفقة، ولم تفكر في ضخ المياه المحلاة في الأودية القريبة من البحر؛ لن تحقق أحلامهم الخيالية!.