تكشف كارثة فيضانات جدة عن شرخ أو خرق في بنية التخطيط والتنفيذ فقط، ولا تتوقف عند مأساة عشرات الأسر ومئات الأفراد الذين فقدوا كل ما يملكون، ولا تستدعي صور الكارثة المهولة من جثث ترقد تحت الطمي وأخرى في الوحل، وثالثة في مستنقعات حديثة لا قرار لها، وسيارات وأبنية ما يرقد في الذهن من مشاهد أفلام الرعب، ولكن ذلك الفاجع لا ينسي جهد خالد الفيصل الدؤوب وتبنيه لخطط إعادة تكوين بنية خدمية وتنموية جديدة تعالج أخطاء الماضي وتستوعب مستجدات المستقبل؛ فمؤشرات أفعال وتصريحات هذا الحاكم الإداري المحنك تبشر بالخير، فقد شرع في إعادة رسم خارطة جديدة للمدينة العصرية متحملاً تبعات أخطاء من قبله من أمناء وتنفيذيين، ولكن مفاجأة الكارثة وجسامتها تنسي أو تزيح بشدة وطأتها تأمل ما كان يعد به ويُخطط له.
ونتساءل: من ردم الأودية؟ ولم يراع مسئولياته الأخلاقية والمهنية؟ ومن باشر عمليات البنية التحتية في الأحياء المنكوبة ولم يستشعر أمانة الوظيفة أو أخل بواجباتها؟ ومن فتح المدارس وشق الطرق وعبَّدها وأعطى رُخص وتصاريح البناء وأجاز إقامة المجمعات السكنية والتجارية و..و..و..في مناطق (عشوائية)؟
وفي المصائب يتضجر الناس من كل كلام المواساة، ويتضجرون من كل المبررات المنمقة عن كمية مطر بذلك القياس أوذاك، ويتضجرون من كل محاولات تكييف للكارثة بمصطلحات مهنية وفنية ووعود براقة. المواطنون مجروحون حد الفجيعة، حانقون على كل من يحاول التملص من تبعات الكارثة،
والشدائد عرَّفت الحكيم العربي بأعدائه وأصدقائه..فدعا لها بالخير، ونحن لا ندعو لها بالخير بل نتمنى بعدها عنَّا وخلاصنا من حِكَمها ودروسها.
... بعد ذلك كله وبانتظار ما كان يُنتظر، يجيء أمر جلالة الملك عبدالله -أيده الله- حازماً أشد ما يكون الحزم، يُسمي الأشياء بأسمائها، ويكشف ما لا يستطيع غيره كشفه، دون مواربة أو تدليس، عطوفاً يتحسس كل الآلام كأنبل ما يكون الإحساس بالناس والوطن ليُحاسَب المقصرون، وتُكف أحزان المحزونين، وليحس المواطن بأن ثمة عين تراه، وراع يرعاه بكل أمانة وصدق مع الله والضمير، ولكن ألا يرعوي مسئولون كأولئك وأشباههم، هل نُضطر إلى إقحام الملك -أدام الله عزه -في تفاصيل ومهام أوكل إليهم القيام بها، واؤتمنوا عليها، ألا يجعلون من رعايته الضافية وسياسته الإصلاحية ونبذه للفساد والفاسدين مناراً يضيء عتمة نفوسهم وخمول ضمائرهم؟
وفي ذيل تداعيات فاجعة جدة ينكشف نمط من أنماط الوعي بالمسئولية وإدارتها وترتيب الأولويات ومراعاتها، ونموذج لوعي إداري لا يقل سقماً عن الفاجعة ذاتها، لأنها منظومة قيم ومفاهيم وقناعات تحرِّك السلوك وتتجلَّى مواقف وممارسات، فمسئول تعليم البنات في جدة أعلن عن منح طالبات شرق جدة من المدارس المتضررة وعددها (11) مدرسة كلها مستأجرة عدا واحدة إجازة استثنائية لمدة أسبوع، على أن تواصل المعلمات (أداء مهماتهن) في مكتب التربية والتعليم للبنات في الجنوب الشرقي..! أية مهمات للمعلمات في مكتب إشراف..؟ بل أي مكتب أو مبنى يستوعب معلمات وإداريات (11)مدرسة؟ أين سيجلسن وماذا سيفعلن..؟ وما الذي يضير التربية والتعليم لو منحن إجازة كالطالبات طالما المدارس مُعطَّلة؟
وهل هؤلاء المعلمات المرزوءات بالفاجعة بحاجة إلى التمحك والمغالاة في التضييق عليهن إلى هذا الحد، دونما مراعاة لظروفهن الإنسانية والنفسية؟ فهن بنات المنطقة ومن المصابات بكارثتها، فأية مواساة لهن وهن يعانين من تبعات كارثة كتلك؟ وإلى أي مدى يمكن أن ترتد آثار ذلك التصرف المتعسف عليهن؟. وأي نفسية سويَّة يعلمن بها.. وأي رسالة للتعليم والتربية يؤمنَّ بها..؟! وهن يُقدَن إلى ذلك المكتب في هذا الوقت وبهذه الظروف.. وبتلك النفسية وبقرار من سعادة ذلك المسئول؟!.