العيون التي ترى بنور البصيرة هي التي تستطيع أن تمتع صاحبها برؤية غيث النور المنهمر من أفواه الصادقين، ورؤية مشاتل الحب المزهرة في قسمات وجوه المخلصين، عجباً ثم عجباً: وهل هنالك نور ينهمر غيثاً من فم أحد من البشر؟
وهل هنالك مشاتل للحب تزهر في قسمات الوجوه؟
ربما قال قائل أو قائلة: يا له من كلام أدبي أنيق، ومن لفظ بياني رشيق، ومن خيال فسيح الآفاق، بعيد الأعماق!!
ولكن القلوب الصافية، والبصائر النافذة تكاد تقسم على هذه الحقيقة التي لا مجال عند أهل البصائر لإنكارها، حقيقة انهمار غيث النور من الأفواه الصادقة، وأزهار مشاتل الحب في قسمات الوجوه المشرقة، حقيقة لغة الإحساس الصادق، والشعور العميق، والنبض المخلص.
نعم، ثم نعم.. حاول يا من يعاني من الشك في هذه الحقيقة، أن تغسل قلبك من أدران هموم الدنيا، وأهوائها، وأحقادها، وشهواتها، اغسله بالاستغفار والذكر، وإخفاء وجه مشاغل الدنيا المكتئب، المكفهر عن نبضه، وأنهار أوردته، فلسوف ترى ما كنت تظنه خيالاً، حقيقة مشرقة لا يواجهها إنكار منكر، ولا يقف أمامها شك ولا ريب.
سترى في عيون أحبتك القريبين منك، من أم، وأب، وأخٍ، وأختٍ، وزوج وزوجة، وابن وبنت، وأهل المودة والمحبة من الأقارب والأصدقاء، وفي وجوههم من غيث النور المنهمر، ومشاتل الحب المزدهر، ما يبهرك، ويعجبك، ويسعدك.
إن القلوب الصافية تبعث بأشعتها، وإشراقات نبضها إلى عيون أصحابها ووجوههم، كما يبعث البحر ببخاره إلى الأفق ليكون السحاب المنهمر بالماء الصافي، وكما تبعث الشمس بأشعتها النقية الصافية إلى الكون ضياء تتألق به الحياة، ويضحك به ثغر الأفق.
هذا في حياة المخلصين الصادقين من البشر الذين أنعم الله عليهم بسلامة الصدور، ونقاء النفوس، واطمئنان القلوب، فكيف بمن زكّاهم الله وطهّرهم من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؟.
تريدون أن تروا صورة مشرقة لذلك؟ وأن تملؤوا قلوبكم بها وتشرحوا صدوركم ببهائها وإشراقها؟ خذوها -إذن- كأحسن ما تكون الأشياء وضوحاً وإشراقاً، وارفعوا بها مستوى مشاعركم إلى أعالي سماء الراحة والاطمئنان:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض الوجه، مشرباً بحمرة، أزهر اللون، ظاهر الوضاءة، واسع الجبين، كثّ اللحية، أبيض الأسنان، (إذا تكلم كأن النور ينهمر من فمه)، ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم (كأن الشمس تجري في وجهه).
بهذه الأوصاف المضيئة تحدث كثيرون ممن أسعدهم الله برؤية خاتم الأنبياء والمرسلين، عليه الصلاة والسلام، ويا لها من أوصافٍ تعبر عن ذلك المخبر النقي الطاهر الذي لم يكن يحمل حقداً على أحدٍ، ولا يضمر لأحدٍ غَدراً، هو قدوتنا -عليه الصلاة والسلام- في نقاء النفوس وصفاء القلوب، فمن اقتدى به، وتخلق بأخلاقه، كان له نصيب من وضاءته وصفائه وإشراقه.
القلوب هي التي ترسم لوحات الوجوه، وتلوّنها بالألوان المناسبة لما تحمله من المشاعر والأحاسيس.
ألا ترون الوجوه المعتمة المكتئبة المظلمة في حياتكم؟ ابحثوا عن قلوب أصحابها فستجدون فيها من ظلمة المشاعر واكتئاب الأحاسيس ما يؤكد لكم هذه الحقيقة.
كنت مع بعض الأبناء في مجلس، وكان من بين الحضور رجل ذو علم ومعرفة وصلاح وتقوى -كما نحسبه- وهو ذو بشرة سوداء داكنة السواد، وهو من المعروفين بالخير، وحسن الخلق بين من يعرفه من الناس حتى ما تكاد تسأل عنه أحداً ممن يتعامل معه إلا ويكون الجواب (ما أحسن هذا الرجل وما أطيبه).
تحدث هذا الرجل في ذلك المجلس فما كان من أحد الأبناء إلا أن قال على سجيته: سبحان الله -يا أبي- أشعر أن في وجهه نوراً ساطعاً برغم سواد لونه، وحينما غادر ذلك الرجل المجلس تحدث بعض الجالسين بما تحدث به ابني، فقلت لهم: هذا مصداق الحقيقة الثابتة أن القلوب هي مصدر إضاءة الوجوه، وصفاء نظرات العيون، ومن خلالها ينهمر غيث الحب، وترجي أنوار الصفاء.
إشارة:
إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.