حرَّم الله مكة وجعلها بلداً حراماً منذ خلق السموات والأرض إلى يوم القيامة؛ فلا يحل فيها القتال.. وجعلها بلداً آمناً. قال الله تعالى:
?وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا?، قال ابن كثير: يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وهذه نعمة أمتن الله بها على أم القرى خاصة دون سائر البلاد. قال تعالى: ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ?، وقال تعالى: ?فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ?.
وحفظ الله بيته من كل جبار؛ فلم يستطع أحد من الجبابرة الوصول إليه، وكلنا يعلم قصة أبرهة وكيف أهلكه الله، وكان أهل الجاهلية قبل الإسلام إذا أراد أحدهم الأمان لجأ إلى مكة بل قال الحسن البصري: كان الرجل يَقْتُل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج من الحرم.
ولما جاء الإسلام استمرت حرمة الحرم وعظمة مكانته في نفوس المسلمين قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى العظيم في خطبته يوم فتح مكة فقال: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يُعضد شوكه، ولا يُنفّر صيده، ولا تُلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يُختلى خلاه). فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم. قال: (إلا الإذخر).
هذا حديث متفق على صحته، حيث رواه الشيخان، وحبذا التوقف عنده لبيان معاني مفرداته.
قوله: (ولم يحل لي إلا ساعة من نهار): قال البغوي: أراد بها ساعة الفتح أبيحت له إراقة الدم فيها دون الصيد، وقطع الشجر، وسائر ما حرم على الناس منها، ويستدل بهذا من يذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي.
وتأوله غيرهم على معنى أنه أبيح له أن يدخلها من غير إحرام، لأنه عليه السلام دخلها وعليه عمامة سوداء.
وقوله لا يُعضد شوكه، أي: لا يُقطع، وأراد به ما لا يؤذي منه، فأما المؤذي من الشوك كالعوسج، فلا بأس بقطعه، كالحيوان المؤذي لا بأس بقتله.
وفي رواية أبي هريرة: (لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد). والعضد: القطع، وظاهر الحديث يوجب تحريم قطع أشجار الحرم على العموم، سواء في ذلك ما غرسه الآدميون، أو نبت من غير غرس، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وفيه قول آخر: أن النهي مصروف إلى ما نبت من غير غرس آدمي، ولم تجر العادة بإنباته كالأراك والطرفاء والغضى ونحوها.. فأما ما جرت العادة بإثباته، كالفواكه والصنوبر ونحوها فلا بأس بقطعها، كما أن المحرم ممنوع من قتل الصيد غير ممنوع عن ذبح النعم والحيوانات الإنسية، وإذا قطع شيئا من شجر الحرم فعليه الجزاء عند أكثر العلماء، وإن كان القاطع حلالاً، وهو قول ابن الزبير وعطاء، وإليه ذهب الشافعي، فعليه في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، يتخير فيها بين أن يذبحها فيتصدق بلحمها على مساكين الحرم، وبين أن يقوّمها دراهم، والدراهم طعام، فيتصدق به على مساكين الحرم، أو يصوم عن كل مد يوماً كما في جزاء الصيد، وقال مالك: لا يضمن شجر الحرم، وهو قول داود: أما إذا قطع غصنا من شجر الحرم فإن كان مما يستخلف فلا شيء عليه، وإن كان مما لا يستخلف فعليه قيمته، فيصرفها إلى الطعام، فيتصدق به أو يصوم.
قوله: (ولا ينفر صيده) معناه: لا يتعرض له بالاصطياد، ولا يهاج، فإن أصاب شيئاً من صيد الحرم فعليه ما على المحرم يصيب الصيد. روي عن عمرو بن دينار أن غلاماً من قريش قتل حمامة من حمام مكة فأمر ابن عباس أن يفدي عنه بشاة.
قوله: (ولا تلتقط لقطته إلا من عرّفها) ويروى: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) أي: المعرف، فالمنشد: المعرف، والناشد: الطالب سمي ناشداً لرفعه صوته بالطلب.