Al Jazirah NewsPaper Monday  30/11/2009 G Issue 13577
الأثنين 13 ذو الحجة 1430   العدد  13577

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

 

مع الورد والقمر

علي جعفر آل إبراهيم

186 صفحة من القطع المتوسط

حين يقيض لأحدنا الاختيار فإنه لن يجد بديلاً تطيب له النفس.. وتأنس له الروح أجمل من أريج الورد المتفتح.. وضوء القمر المنساب من عل طارداً عتمة الظلام ووحشة الليل..

وشاعرنا اختار العطر والسحر معاً.. اختارهما عنواناً لديوانه.. فهل حالفه التوفيق في ريشة بيانه..؟ هذا ما ننتظره جميعاً ونحن نلاحق محطات شعره.. ودفقات شعوره:

(شفاء صادي) أولى قصائده.. والظمأ يأخذ عافيته من الري كالجوع يأخذ طاقته من الغذاء.. وكالداء يطال عافيته من الدواء.. والحب ينال طعمه من الوصال:

أجاهد نفسي لا تبوح بما ألقى

ولكن هذا الحب علمني الصدقا

نحت هممي عمياء للحب واديا

وقد سمعت لكنها ترغب العمقا

وما أبصرت لما غدت في شباكه

يخالط سيل الماء سيلا من الغرقى

من قال لشاعرنا إن الحب نزهة؟ وإن مذاقه حلو لا تعتريه مرارة وحرارة انتظار؟ المحبون بقدر إحساسهم بالحب يأتي قلقهم عليه.. ومعاناتهم من أجله.. ألم يقل شاعرنا القديم بيتاً شافياً كافياً أشبه بالوصفة:

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا..

والحب مجد روح وعاطفة تكتنفه جروح وعاصفة لا بد من تحملها:

لقد كنتُ حراً أسلك الأرض أيها

وها أنا ذا أهواء ما أكبر الفرقا

القصيدة معبرة مشحونة بالصدق والتضحية والفدائية والانقياد الطوعي:

وسلمت عمري كفه ضاحك الرؤى

ليودعني ما شاء منه، وما أبقى

(أنت أغلى هدية) هكذا صاغها أبيات مليئة بالوجد والهيام

لم أذق ساعة بعمري هُم

اليتيم والدهر مسني واراني

يا نميري لقد بقيت على امتع

آه.. بما تغيب أعاني..

أرأيتم كيف أمتعته آهة رغم أنها حرَّى وموجعة؟ إن الحب الذي يستغرق من عذوبته لا عذاباته دون أن يتراجع.. إنه يوم لا ينساه.. اسال حبر قلمه ليرصده وقد أوحي له بهم أقسى من همِّ اليتيم:

كان يوما كتبت فيه غنائي

إنني لا أراك في كل آن..

مثلنا العربي يقول: (زر غباً تزدد حبا).. من يدري لو أن الرؤية تحققت في كل آن لأسلمته إلى الملل!

(نفثة حارقة).. لها حرارة أمل.. ومرارة ألم..

لا تسألنّي إن رميت بما

بين المخالب.. نابض يبلى

بعد أذاب نواته فغدا

ميعا لسح ويحرق الوبلا

يا ليت مالكه يجود به

آناً يخفف ورده القتلا

إن كان طفلا حين أطلبه

قمري.. فتوقي لم يعد طفلا

دعك طفلك يكبر.. ودع توقك ينتظر.. لا بد من الصبر.. الطفل صغير على الحب لهذا جاء صوته قاسياً لأن نضج تحنانه لم يكتمل بعد:

الطيور المهاجرة إلى البعيد غنى لها أكثر من شاعر وأكثر من ثائر لأنها رمز غربة للإنسان نفسه حين تضيق عليه الأرض بما رحبت:

تباعد الطير بلا حدود

عن غابة كانت له المهد

وكانت موطناً يعرفها بوسعها

وظلها الممدود

أراد أن يقول لنا إن الغربة ليست غربة جفاف طبيعة، بل جفاف طباع وانطباع.. فالطيور تهاجر إلى الجنوب، حيث الدفء، تاركة خلفها الحقول.. والمروج الخضراء.. والغابات. والبحيرات. والأنهر.. لأنها تبحث عن شمس لا تحجبها الغيوم وعن دفء لا يعصف به رياح الشتاء المثلجة..

من مقطوعات شاعرنا علي جعفر المرحة تلك التي تتحدث عن الصلعة:

ترنح المضحاك إذ جاءني

فاستقبلته درة تلمع

حي. وحيت قبله ضحكة

فقال: كيف الحال يا أصلع؟

كيف غدا البطيخ في يومنا

والقرع الموفور. والدعدع

ثلاثتها معروفة بالصلع الذي يشبه صلعة صاحبنا.. بما أجاب؟!

فقلت يا ساحر إن الذي

أنار عينيك هو الأسنع

خصالها الجم كنور الضحى

ما حجب الشمس ولا المطلع

الشمس يا صديقي مؤنثة.. وحُجب تعود لمذكر.. حسناً لو قلت: ما حجبت شمس ولا المطلع.. ثم أين علامات الاستفهام في بيت شعرك الثالث؟

ومن صلعة الرأس إلى طلعة شمس الوطن الذي احتفى بها. واحتمى تحت أشعتها المتوهجة، أليست إشراقة وطن؟

وطني كم روويت برد سحاح

منك يشتاقه الندى معروفا

أليست كلمة (معزوفا) أقرب إلى المعروف؟ وكلاهما صحيح

تنثني تحته رؤى وأماني

وتغدو منابعاً وقطوفا

أنت حرف من الجلال عليه

رسم الكون للعلاء حروفا

ليس وحده المتيم بحب وطنه.. عمره يشاركه هذا الحب.. وهذا الالتصاق بترابه لو أنه تردد:

لو ترددت أن آتيك عمري

لهفاً طائراً إليك شغوفا

(الأمل الموقد) ماذا قال شاعرنا علي جعفر آل إبراهيم؟: لقد سأل نديم حياتي الذي سأل الزمان عن الخلق! وعن الحب. وأشياء أخرى تنضوي تحت مظلة الأمل.. إلا أنه ما لبث أن تداعت صور أخرى مغايرة لأمله:

فيا للقساة القلوب

من ناصبين العدا

أما راعهم ذلكم

وقد هده ما شيدا

لأنهم أعداء أمل لا شيء يريعهم.. إنهم يرقصون أمام مشهد الأطلال وشلالات الدماء لأنهم خصوم حياة.. ولهذا تحدث وأفاض الحديث عن توابع أعداء الحياة:

لم تزل تضحك المجازر ما انهك

قلب السماح هم وعصف

فالدم البوسني ما جف أو غار

ولا نزفة لقانا تجف..

وثرى القدس حين أسكته الخذ

لان من ظن أنه سيكف؟

ويلتفت إلى الكعبة الحرام عنوان مقطوعته مخاطباً:

كعبة البيت جللي العالم البائس

نوراً.. سقاه مزن، وعطف

فخري زمزم الحياة أناشيد

فيحيا أمن.. ويُدمر خوف

وعن الطفل البوسني رسم لنا صورة شعرية أخاذة.. ومعبرة:

ألق في جماله خلل

ماكث لا يشوبها خلل

رسم الحزن شكل وجنته

فمحياه بالأسى جدل

في حشاه البحور مسخرة

في لماه من الحشا بلل

وكأنما يهدهده وهو يبكي حرقة من بلواه:

أيها الطفل كف عن حُرق

شوه الأرض لفحها الأزل

ويعود إلى مساءلة ضميره:

كيف أسلو وهذه كبدي

بضرام الحروب تثتكل

العالم يا صديقي لا ذاكرة له.. مأساة البوسنة والهرسك طواها النسيان.. فلا القتلى الأبرياء اقتص لهم.. ولا المشردون عادوا.. ولا الأطفال البوسنيون المسلمون الذين نُصّروا أو هوّدوا بعد بيعهم يعرفون شيئاً عن أصلهم وفصلهم..

(عبوس لحظة) أمر هيّن يمكن تجاوزه بلحظة.. الإشكالية عبوس عمر يطعم الحزن.. ويشرب المر.. كانت لحظة فراق أشبه بسحابة صيف مسرعة:

أنا أدري بأنها

صدة منك تعرف

كعماء مرورها

تتولى وتصرف

إنما العمر ساعة

كلما اسود تقصف

كيف يفنى أوانها

حين يجلوه موقف

يفنى الأوان عند جلاء الموقف.. وينكشف المستور.. وتبقى الحقيقة عارية لا لبس فيها ولا إيهام..

شاعرنا اجتماعي يأنس حتى للنحل الذي يلدغ ولكنه يهب العسل.

قمري شع في عيوني سناه

ساعة إذ ذكرته فبدا

يا بروحي قد ادميت شفاه

ولقد سال في الرحيق ندى

هالني جرحه.. وأحزنني

من عثا في خليتي شرها؟!

أيد عابثة امتدت إلى خلية نحله.. ولأنه لا يعرفها استنطق النحلة.. هكذا كان يتصور.. ولهول المفاجأة نطقت النحلة مبددة الشك باليقين كما لو كانت أمام سيدنا سليمان إلى جوار الهدهد والحمام..

قالت النحلة الطموح.. أنا

بحياتي من اشتهى النحل منه

عسلاً فاهتدى لرشف لماه

قدر الله رزقه فهدى..

للمرة الأولى أسمع أن نحلة تحدثت إلى إنسان منذ عهد النبي سليمان بن داود.. خيال اللا معقول..!

لعل ما بعد هذا الخيال الضارب في متاهات التصور نجد ما هو أحلى.. وأغلى.. هذا ما حدده لنا عنواناً لقصيدة جديدة:

يا ورد تعدو فوق أرواحنا

ووهمنا، وطُؤك هذا التراب

طلعت جذلانا فلم تتضح

رواجح الألباب إلا سراب

ما أنت إلا سائح ماهر

يقتنص الروح وراء الحجاب

ويذبح الظبي على صدره

بنظرة منه لعليا الهضاب

هل أنها النظرة الخرافية الخارقة التي تتحدث عن الأساطير.. إلى جانب البساط السحري لفريد الأطرش.. وبساط الفقر لعبد الرضا حسين! وطاقية الإخفاء لإسماعيل ياسين!

والفانوس السحري حيث يُعتقل العفريت ثم يُحرر... وتصنع ما لا تصنع خارج حدود الممكن:

قالوا: أهذا البدر تعني به؟!

فقلت: هذا بهواه مصاب

عجبت كيف اصطاد مني الحشا

ولم أكن اعشق الا الرحاب

لماذا العجب يا عزيزي.. أليس هو الذي اصطاد بنظرة منه ظبياً وفي مقتل وهو على قمة هضبة؟ إذا عرف السبب بطل العجب..

شاعرنا يبدو أنه دفع الثمن.. ولكن أي ثمن؟ وعلى ماذا؟

قبله.. لم يعترف السوس بوجودي

بعده.. ضحكت من الديوان القديم

بقي أن أودّع ساعة اليد

حتى لا يحزن البطل..

لا معنى للساعة إلا لضبط المواعيد.. والموعد أزف.. وربما البطل وصل.. إذاً وداع الساعة أن لا تتطلع إليها.. ولكن احتفظ بها على ساعدك.. قد تساعدك في انتظار آخر حين يحزن البطل ويحزم أمره ويعود ثانية بعد غيبة أو جفوة.. الحياة غير مأمونة..

وأخيراً مع مقطوعة شاعرنا علي جعفر إبراهيم (الأخيرة).

كل النسيم.. وكل الندى.. والنوال

وعذب الزلال..

وري إذا صب أحيا السهر

ليس يُدرى له عالم..

فيه سحر من طين.. فيه أجن

يرفع النفس فوق الهرم

يرمي بها جمرة.. ليستريح

إلى البعيد حملنا معه على بساطه السحري دون توقف ودون حاجة إلى وقود.!

في حرة الصين أعجوبة خاطفة

عبثت بالفتى

أدخلته بساتين تنداح لا تنتهي

ليت شاعرنا بقي حيث هو دون أن يرحل إلى أقاصي الدنيا فلدينا ما يكفي من البساتين والظباء. والنحل.. والنخل وأشياء كثيرة تدعونا إلى الاقتراب منها لا إلى الاغتراب عنها سيما إذا كان البساط السحري إليها مهتزاً وغير مريح..

يا شاعرنا.. في شعرك تباين.. وليس عيباً أن يكون كذلك.. فنحن المنتسبين إلى مهنة الشعر نحلّق حيناً.. ونخفق حيناً.. ولكن أن لا نبتعد عن الفكر.. وأن يكون التقاطنا لها من خلال عدسة شفافة لا تتجاوز المواقع.. ولا تقصر دونه.. الشعر أداة طرح لا يغيِّب الفكرة.. ولا يغالي في إظهارها.. والصدق أولاً وأخيراً..

الرياض ص.ب 231185

الرمز 11321

فاكس 2053338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد