إنَّ الحج شعيرة عظيمة من شعائر دين الإسلام، بل هو الركن الخامس من أركانه، وهو من إرث ملة أبينا إبراهيم عليه السلام؛ لذا فإنه لا يُذكر الحج ومناسكه ومشاعره إلا وذُكر إبراهيم عليه السلام.
وقد عظَّم الله تعالى الحج في كتابه، وعظَّم زمانه ومكانه.
يقول تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
هذه الآية عند أكثر المفسرين هي الآية التي فرض الله بها حج بيته، وأوجبه على عباده، والملاحظ أنه بين يدي فرض حج بيت الله العتيق قدَّم له تعالى بمقدمات تدل على أهمية هذا البيت وعظيم العناية به، وتُبيِّن ما له من المزايا والخصائص التي تحفز النفوس لقصده وحجه؛ فقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}.
فأول هذه الخصائص: أنه أول بيت وضع للناس؛ (فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة). متفق عليه.
الثانية: (مباركاً) والبركة دوام الخير واستقراره، وليس في بيوت العالم أبرك ولا أكثر خيراً ولا أدوم ولا أنفع للخلائق منه، وهي عامة تشمل كل بركة حسية ومعنوية؛ فمن بركاته الحسية توافر الأرزاق التي تُجبى إليه من كل مكان {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، ووجود ماء زمزم المبارك، وغير ذلك، ومن بركاته المعنوية أنه مكان حط الأوزار ومغفرة الذنوب والعتق من النار كما قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) وقال: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، وهو مكان اجتماع المسلمين وتآلفهم وإعلان وحدتهم.
الثالثة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، وكيف لا يكون (هدى) والمرء إذا حجه تذكَّر مقامات أبيه إبراهيم عليه السلام، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف أن الأمم تقصده من كل فَجّ عميق معلنة الانقياد لرب البيت والتوحيد له.
فتأمل في أحوال البيت الحرام بعين البصيرة، واسترجع تاريخه حين بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام، ثم حج إليه الأنبياء من بعده، فهو رمز التوحيد وقِبلة الحنفاء، ومنبع الرسالة، وهو أحب البقاع إلى الله، وأحب البقاع إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
والرابعة: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} لقد تضمن هذا البيت من الآيات الدالات على عظمته وعظمة مَنْ أمر ببنائه جلَّ وعلا شيئاً كثيراً، وقد جاءت الآية بالإشارة إلى إحدى هذه الآيات فقال سبحانه:
{مَّقَام إِبْرَاهِيمَ} وهو الحجر الذي فيه آثار أقدام إبراهيم حين كان يقوم عليه لبناء البيت، وهو - أيضاً - كل مقامات إبراهيم في الحج والمشاعر.
والآيات في البيت كثيرة، حتى قال ابن القيم - رحمه الله - إنها تزيد على أربعين آية.
ولعل من هذه الآيات أن القلوب لا تقضي وطرها منه؛ فكلما قصدته لقضاء المناسك ثم عادت إلى أوطانها ازدادت شوقاً إليه، وهذا أمر يحس به كل مؤمن ويدركه كل موحد، وهو مصداق دعوة أبينا إبراهيم حين قال: {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}.
الخامسة: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، وليس هذا فقط من شرائع الإسلام، بل إنَّ العرب هم في جاهليتهم كان الواحد منهم يلقى قاتل أبيه فلا يعرض له ما دام في الحرم، وكانت مكة أكثر الديار أمناً في وقت كان الناس فيه يتخطفون من حولها وينهب بعضهم بعضاً {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}، {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}، فجاء الإسلام وأكَّد هذا الأمر وثبَّته، بل أعظم من ذلك أنه أمن الطير فيه والوحش والصيد، بل والشجر والشوك؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرام بحرمة الله، لا يختلى خلاه، ولا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف).
كل هذه المزايا والخصائص لهذا البيت الحرام جاءت توطئة وتقديماً قبل ذكر وجوب حجه وقصده بالمناسك؛ لتنبعث القلوب على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار.
أستاذ التفسير المشارك بكلية أصول الدين بالرياض