لم يكن سؤالاً واحداً عابراً، بل استفهامات متعددة ملحة؛ فهل صحيح أنكم أخذتم لقاح (الأنفلونزا المكسيكية) الخنازير والمستجدة - بتوصيفين موازيين-)؟ وحين تجيب ب(نعم)، يصر بعضهم على أنكم (الإعلاميين) مخصوصون بلقاح غير متاح للعامة. وهذه شكوك تمتد بامتداد الذهن (العربي) المتكئ على ذكائه الخارق في التحليل والتعليل.
كلنا قرأنا التخويف والتهويل من المرض بدءاً ومن لقاحه تالياً، وكثيرون ترددوا في الاقتناع بالدراسات التي رأت انتشاره أمراً قابلاً للفرضيات العلمية، وبأن علاجه ولقاحاته قضايا مرتبطة بقبول الفرضية السابقة، وأن ما سيلي من أمراض جديدة تدخل في باب: (لكل زمان أدواؤه)، وحتى حينما بادر وزير الصحة وابنته بأخذ التطعيم ظل المشككون في ابتكاراتهم لنوع اللقاح وتصنيف جرعاته، وغاب عن أولاء وأولئك أن ما من مسلم يضع جبهته على الأرض ساجداً لله يرضى أن يغش عباد الله، ونربأ بالوزير والإعلامي (وصاحبكم أحدهم) أن يظهرا أمام (الكاميرات) ليخدعوا بني أبيهم، وحساب الجميع على الله.
الموضوع هنا يتجاوز الحكاية المجردة إلى توغل فكر المؤامرة الذي يرفض نقاش الأمور بأبعادها المشاهدة؛ فيلجأ إلى البحث عما وراء الظاهرة، وتتحول الأمة - في نظرهم - إلى مجموعة من الدراويش لا تدري عما يحاك لها من دسائس ومكائد تدبر بليل ضدها، وليتنا نستحق هذا العناء؛ فمباراة كرة قدم أعادت لنا (داحس والغبراء)، وما نظن وراءها سوى عقول لم تتجاوز زمن (جساس) و(البسوس).
في عامنا الجامعي الأول درسنا الدكتور زكي غيث - رحمه الله حياً أو ميتاً - مادة (النصوص التاريخية)، وفوجئنا - القادمين من ثقافة شرعية تقليدية - أن ثمة حديثاً بين المؤرخين عن مؤامرة في سقيفة بني ساعدة) لتولية (أبي بكر) الخلافة؛ بطلاها - إلى جانبه _ (عمر وأبو عبيدة) - رضوان الله عليهم - ، وكان الدكتور غيث يرد على هذه الفرية التي لم ندر بها أصلاً، غير أن دراستها كانت لزاماً علينا، لمحاكمة الوقائع برؤية الباحث عن الحقيقة النائي عن إسلام رأسه للمسلمات مهما كان تأثيرها، أو الإجماع الشعبي حولها؛ ما نحسبه جانباً من منهجية (القطيعة الأبستمولوجية) المهمة في ميادين الفكر الإنساني.
لنعد إلى التنظير المؤامراتي في القضايا الاجتماعية؛ فهو نتاج التعتيم المعلوماتي الذي يمارسه الإعلام الرسمي والمتخصص، ما يفسح المجال للتخمين، ويتيح لهواة الخيال بسط أقوالهم القريبة من الطبيعة الصحراوية التي عودتنا على الشك والحذر والاستعداد الدائم للخطر، وفي موضوع إنفلونزا الخنازير فإن لدى الناس معلومات مخيفة عنه لم تبادر الأجهزة المعنية بتبديدها في حينه، بل لعلها أسهمت في تأكيدها، وكذا شأننا في قضايا مفصلية يبخل المسؤول بالإجابة؛ فتتطوع العقلية المؤامراتية لاختراع روايات لا تمحى مهما صدق الراوي المعني بها بعدما لات ساعة حقيقة.
قابله أحد المهووسين بنظرية المؤامرة، وقال له: إنها تمثيلية بارعة؛ فأي فيتامينات (طعموكم) بها؟ وأجابه: إنه الصمت الذي نظنه حكمة، والإعلام الذي اعتدناه إعلاناً، والصورة التي هجيراها الظهور؛ فله حق، وعلى كثيرين فينا وزر التجاهل والتجهيل والمداورة.
الشفافية شعار لا يرى
Ibrturkia@gmail.com