Al Jazirah NewsPaper Friday  27/11/2009 G Issue 13574
الجمعة 10 ذو الحجة 1430   العدد  13574
فقه الحج الأكبر
د. فهد بن سعد الماجد*

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:

ثبت في الصحيح من حديث معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).. الحديث.

والتفقه في الدين: هو تعلم قواعد الإسلام وما يتصل به من الفروع.

قال ابن حجر رحمه الله: ومفهوم الحديث إن لم يتفقه في الدين فقد حُرم الخير. وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف وزاد في آخره: ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به.. والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهاً ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير (فتح الباري 1-198).

إذا علم هذا، تبين أن الفقه في الدين ليس هو: العلم بالأحكام التفصيلية الجزئية، فحسب، بل هو أحد قسميه، والقسم الأول والأهم: العلم بقواعد الدين وأصوله. وينتظم فيه العلم بمقاصد الشريعة، وأسرار التكليف.

وهذا القسم، أعني: العلم بقواعد الدين وأصوله، وما ينتظم فيه هو ما يجعل الإنسان عبداً لله اختيارا كما أنه عبد لله اضطرارا.

قال الشاطبي رحمه الله: ويظهر من هذا أيضاً، أن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات، لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا، وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل، ويترك إذا طلب منه الترك. (الموافقات 339).

وقال أيضاً: إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص. أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصته، وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله وعباداته، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع. (الموافقات 451).

أردت من هذا أن أقدم الأهمية أن يعلم الحاج ويتعلم المقصد الشرعي من فريضة الحج الذي هو في حقيقته الفقه الأكبر للحج، وذلك جلي واضح - ولله الحمد - في كتاب الله - عز وجل - في آيات متعددة.

فمن هذه الآيات قوله سبحانه: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ استطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فإن الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(97) سورة آل عمران، ففي هذه الآية يلحظ مقصدان الأول: في قوله: (ولله) وهذا اللفظ يفيد توحيد العبودية لله وإخلاص الدين له، وسيأتي الكلام عليه في الآية التي تلي هذه الآية والثاني: في قوله: على الناس (وعلى) تستعمل على وجهين: أحدهما: أن تكون حرفاً والثاني أن تكون اسماً، وهي هنا: حرف. وحرف (على) له تسعة معانٍ وهو هنا في الآية بمعنى الاستعلاء، كقوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون).

إذا فهم ذلك، فإننا سنطلع على مقصد جديد من مقاصد الحج، ألا وهو الخضوع لله، والتسليم له، وهذا المعنى هو أحد الركنين اللذين تقوم عليهما العبادة، فإن العبادة كما يقول ابن تيمية رحمه الله: (تتضمن كمال الحب المتضمن كمال الحمد، وتتضمن كمال الذل الناشئ عن عظمته وكبريائه).

وهذا الخضوع والتسليم كما أنه مقصد عام في العبادة، فإنه يتجلى واضحاً في أفعال الحج وأقواله، ابتداء من التلبية (لبيك اللهم لبيك) التي معناها: إجابة بعد إجابة، إلى ما شئت من أقوال وأفعال كالطواف والسعي والوقوف والمبيت ورمي الجمار والأدعية والأذكار. وقد نقل ابن تيمية - رحمه الله - كلمة ل(عبد القادر) تناسب هذا الموضع، نصها: لا بد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء: أمر يمتثله، ونهي يجتنبه، وقدر يرضى به، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: والله ما صدق في عبوديته من كان لأحد من المخلوقين عليه ربانية.

والآية الثانية التي تبين مقصداً من مقاصد الحج، هي قوله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)(196) سورة البقرة، ففي هذه الآية مقصد من مقاصد الحج وهو: أن تخلص النية لله في الحج، وكما أن المقصد الأول في الآية السابقة هو أحد الركنين اللذين تقوم عليهما العبادة، فإن هذا المقصد هو أحد الشرطين لصحة العبادة، فإن الإنسان إذا تعبد لله بشيء فلابد أن يتوافر في هذا المتعبَّد به شرطان: الأول: أن يكون خالصاً لله والثاني: أن يكون على وفق ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والنية لها أثر عظيم، فيما يصدر عن الإنسان، فهي تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية، كما يقول ابن حجر رحمه الله.

ومن الإخلاص تدرك أن الحج يحقق ما بعث به الرسل وأنزل الكتب وهو التوحيد الذي هو حق الله على العبيد. وقوام الدين كما يقول ابن تيمية بالتوحيد والاستغفار. ويقول: شهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار يغلق باب الشر. ويقول أيضاً: أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد ويقول: سبب تعلق القلب بالله تحقيق التوحيد.

الآية الثالثة أو الموضع الثالث الذي يبين مقصداً من مقاصد الحج هو قوله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيام مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (28) الحج ، فالآية الكريمة لم تحدد منفعة ولم تقيدها، فتشمل كل منفعة دينية ودنيوية، ولذلك فالحج يحقق للمسلم على مستوى الفرد، وللمسلمين على مستوى الجماعة منافع عظيمة، وبقدر اقتدائهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء الحج بقدر ما تحصل هذه المنافع تعدداً وبركة.

ولك أن تطالع في الحج إنابة العبد لربه، وتوبته من ذنبه كما لك أن تطالع فيه: الرزق الحلال والتجارة الرابحة ولك أن تطالع فيه أيضاً: وحدة الأمة واجتماع الكلمة، وأن تحس فيه وتشعر بالأخوة الدينية والوشيجة الإيمانية، وغير ذلك من منافع لا يحيط بها نطاق.

ولعل في هذا العرض الموجز لشيء من مقاصد الحج ما يدلل لنا على أن الارتقاء إلى فهم الإسلام هو بالارتقاء إلى فهم مقاصده وأصوله وقواعده، وبقدر هذا الفهم يكون قدر العمق في فهم الشريعة وتبين مصادرها ومواردها، ثم بقدر هذا العمق يكون قدر الجمال في عرض الإسلام على الآخرين والحمد لله رب العالمين.

* الأمين العام لهيئة كبار العلماء



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد