Al Jazirah NewsPaper Friday  27/11/2009 G Issue 13574
الجمعة 10 ذو الحجة 1430   العدد  13574
رياض الفكر
تكرار الحج
سلمان بن محمد العُمري

 

يفد ملايين الحجاج من كل حد وصوب إلى المملكة، قادمين من مدن مزدحمة، أو قرى نائية في بلادهم، بعضهم فقير ربما قضى عمره يدخر نفقات وتكاليف أداء هذه الفريضة الغالية، وظل يمنِّي نفسه بذلك لسنوات طويلة، وآخرون أنعم الله عليهم بالكثير من الرزق، وبعضهم لم ينل حظاً من العلم أو التعليم، وآخرون منهم لا يجيدون اللغة العربية، فيهم الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض، لكنهم جاؤوا يريدون أداء الركن الخامس من أركان الإسلام، إعلاناً بالتوحيد لله - جلَّ وعلا -، راجين رضاه وثوابه ومغفرته، كلهم حماسة ورغبة صادقة.

كل واحد من هؤلاء الحجاج هو لمسة في لوحة إيمانية عظيمة تجسد المعنى الحقيقي للمساواة، والتجرد، يؤدون مناسك كلها إعلان بالعبودية الخالصة لله، من طواف بالكعبة، وسعي بين الصفا والمروة، ووقوف بعرفة، أو مبيت بمزدلفة ومنى، ورمي للجمرات، وهي لوحة لا مثيل لها في روعتها وغاياتها وضخامة مفرداتها، التي صهرت كل الألوان والأعراق والألسنة في بوتقة واحدة يصعب فيها التمييز بين مسلم وآخر؛ فالجميع تجرد من زينة الدنيا ومفاخرها، وارتدى لباس الإحرام ملبياً ومهللاً ومكبراً وشاكراً لله - سبحانه وتعالى - أن أنعم عليه بأداء فريضة الحج.

وجمال هذه اللوحة الإيمانية يكمن في تخلي المسلم عن (الأنا) بكل أمراضها، وذوبانه في كيان أكبر لا يميز بين عربي ولا عجمي، ولا أبيض ولا أسود، ولا غني ولا فقير، ولا صاحب جاه أو منصب؛ فالجميع يؤدي المناسك ذاتها في ذات الوقت، وكلما تراجع الإحساس بالأنا المفردة، ونما الإحساس بعظمة الكيان الأكبر، والمكان الأطهر، ازدادت اللوحة الإيمانية في الحج جمالاً ورونقاً؛ فكل حاج هو مفردة في هذه اللوحة؛ لا فرق بين مفردة وأخرى، ولا ينبغي أن يوجد هذا الفرق، بل الأهم أن تنسجم هذه المفردات مع بعضها البعض، وأن تتناغم جهود الأجهزة التنظيمية والعاملين في خدمة ضيوف الرحمن، مع التزام الحجاج وقناعة كل منهم أنه واحد من ملايين المسلمين الذين جاؤوا للحج، ومتى ترسخت هذه القناعة تلاشت جميع الأمور التي قد تنال من جمال اللوحة، وروعتها، واتسعت المشاعر المقدسة لهذا العدد الهائل من الحجاج، بل أتيحت الفرصة أمام عشرات الآلاف من المسلمين لتحقيق حلمهم بأداء فريضة الحج.

وعندما يدرك كل مسلم أنه واحد من ملايين المسلمين الذين لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات، سوف يتضاعف الالتزام بالقواعد التنظيمية في الحج، وسوف تتراجع ظاهرة التطوع لأداء الحج، التي دأب عليها كثير من المسلمين القادرين على تكاليفه المالية، ليتيحوا لإخوانهم ممن لم يحجوا الفرصة لأداء الفريضة، ولاختفت أيضاً مظاهر التجهم والعبوس التي تنطبع على وجه كثير من الحجاج ولتراجعت أيضاً معاناة الأجهزة الحكومية العاملة في تنظيم الحج.

والحقيقة أننا نحتاج إلى أن ندرك أننا جزء من كل، وأن كلاً منا هو واحد من غيره من الملايين في جميع أمور حياتنا وليس في الحج فقط، سواء أثناء قيادتنا لسياراتنا في الطرق والشوارع، أو حتى شرائنا لحاجاتنا الاستهلاكية من السلع والمنتجات، أو في استخدامنا للمرافق والخدمات العامة، لكننا نظل أكثر حاجة لهذا الإدراك في الحج؛ حتى تتسع المشاعر المقدسة للجميع ليؤدوا مناسكهم بكل يسر وسهولة، وحتى تتسع أيضاً قلوبنا لكل إخواننا الذين تتداخل أصواتنا معاً بالتكبير والتهليل، وتتسع ابتسامتنا التي تعبر عن سعادتنا بأداء فريضة الحج؛ فحري بنا أن نكون سعداء بذلك حقاً.



alomari1420@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد