Al Jazirah NewsPaper Friday  27/11/2009 G Issue 13574
الجمعة 10 ذو الحجة 1430   العدد  13574

من أبعاد الحج التربوية
معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد *

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم نلقاه.. أما بعد:

فإن تحقيق العبادة لله وحده أعظم مقصود يسعى إليه العبد، وأرجى ما يؤمله لنيل الأجر والثواب، ومع ذلك فإن لكل عبادة شرعها الله حكماً وأسراراً، تتحقق بها للعبد أشرف الغايات، وأوفر المصالح. والمتأمل في مناسك الحج يدرك أسرار هذه الفريضة العظيمة وأبعادها التربوية على العبد. وتتجلى هذه الأبعاد في عدة مواضع منها:

أولاً: للإحرام مواقيت مكانية لا يجوز أن يتجاوزها الحاج أو المعتمر بدون إحرام، لما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)، ومن تجاوزها فإنه يجب عليه أن يعود إليها ويحرم منها وإلا فعليه دمّ يذبحه ويوزعه على فقراء الحرم.

وفي هذا تربية للنفس على التنظيم والانضباط والالتزام، فيتعود العبد على التزام الحدود وعدم تجاوزها، فإذا وطّن نفسه على ذلك وألفه واعتاد عليه كان له تأثيره على أمور حياته كلها. ويتجلى هذا البعد التربوي أيضاً في مشاعر الحج العظيمة، ووقوف الناس فيها وسيرهم وانتقالهم من أماكن محددة وفي أوقات محددة. ليترسخ عند العبد أن الإسلام دين النظام والترتيب وحفظ الأوقات، دين لا يقر الفوضى، ولا يسمح بالمخالفة فيتربى المسلم على الدقة والانضباط.

ثانياً: الإحرام هو نية الدخول في النسك، فيلبس مريده إزاراً ورداء ويتجرد من المخيط لما روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً (ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)، وفي ذلك إشعار بالتجرد لله سبحانه، وإظهار الافتقار إليه، وتجديد العهد معه، والانتقال من حال إلى حالٍ، مما يكون له أبلغ الأثر في مراجعة النفس ومحاسبتها على زلات الماضي وخطيئاته، وتعويدها على التغيير إلى الأحسن {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد، فتغير الظاهر يعين وينبه إلى ما ينبغي من تغيير الباطن.

وإن التجرد من المخيط عند الإحرام ليهذب النفس أيضاً على ترك التنعم، وتحمل الخشن من العيش، ويهذبها لتستشعر المساواة وتجتنب الاستعلاء والتكبر وتدرك تمام الإدراك أن الناس جميعاً كما تساووا في هذا اللباس فإنهم كذلك عند الله، ولا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح.

ثالثاً: تجتمع الأعداد الغفيرة تلبية لنداء الله سبحانه القائل { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) سورة الحج، ويتوافد الحجيج على المشاعر المقدسة من كل حدب وصوب ومن كل جنس ولون، مختلفين في اللغات، ومتساوين في الهيئات، الزي واحد، والمكان واحد، والهدف واحد ويتوجهون جميعاً لرب واحد، تعالى في ملكه وعظمته.

إنها صورة من صور الهيبة والجلال، بها يتربى المسلم على توثيق روابط الأخوة الإسلامية فلا فرق بين عربي وأعجمي ولا أحمر ولا أسود إلا بالتقوى، وأن الله سبحانه لا ينظر إلى الأجسام والصور، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.. فكم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، وكم من عزيز شريف عند الناس وهو لا يعدل عند الله جناح بعوضة.

رابعاً: وحين يقلب المتأمل الصفحات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم يرى أعظم الدروس التي كان يربي عليها أصحابه، ومن أعظم هذه الدروس تلك الكلمة الحانية التي تفيض بالتيسير والسماحة لكل من جاء مستشكلاً وجلاً من تبعته حين قدم فعلاً على فعل في يوم النحر بقوله صلى الله عليه وسلم (افعل ولا حرج).

إنه دين يربي في أبنائه اليسر المنضبط بضوابط الشرع، ويحثهم على السماحة، ويدعوهم إلى الرفق، وما كانت مشقة الحج والجهد الذي يكون فيها خالية من صور اليسر والرحمة، إنها ظاهرة وجلية لكل من تدبرها وعرف أسرارها، إنها قاعدة التيسير ورفع الحرج.

خامساً: جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- الذي رواه مسلم وغيره (ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام، حتى رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول بيده اليمنى، أيها الناس السكينة السكينة، كلما أتى جبلاً أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى مزدلفة..) الحديث.

في هذا الموقف العظيم، وحين تسير قوافل الحجيج زرافات ووحداناً، رجالاً وركباناً، بعد غروب الشمس من يوم عرفة إلى مزدلفة يحدوهم الحنين، ويملأ قلوبهم الخوف والرجاء، ونفوسهم أشد ما تكون حرصاً على إنجاز فريضة الله وإتمامها، عندها تلوح للأذهان عظمة مربي البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو يشير بيديه (السكينة السكينة) ويا الله ما أروعها من تربية، وما أجله من تهذيب، وما أحوجنا إلى أن نملأ قلوبنا بالسكينة، ونوطنها على الطمأنينة، وهذه الحشود مندفعة اندفاع السيل كم هي بحاجة إلى السكينة في ظاهرها والسكينة في باطنها.

كأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على الملايين التي تفد إلى الحج هذه الأيام، وكأنه يوجههم بهذه الكلمة البليغة التي لا تزال منهجاً سامياً من مناهج الإسلام، بأن لا تعجلوا واعلموا أنكم ستدركون مقصدكم وتبلغون غايتكم بالرفق والسكينة، ولو امتثل الحجاج هذا المنهج لسلموا من كثير من الأذى والضرر.

إن نوازع الحرص غير المنضبط، والعجلة التي لا يحكمها زمام ولا خطام لا تجلب خيراً ولا تقرب مقصداً، ولا تسرّع في حصول غاية، ولا يبلغ بالمرء أعلى المراتب إلا امتثال الرفق مع التزام التروي والسكينة ولزوم السنة.

سادساً: إن هذه الجموع العظيمة التي تملأ المشاعر المقدسة بأعدادها، لتملأ مشاعر المسلمين بالأمل، وتحيي فيهم كوامن الخير، وتذكرهم بتاريخ العزة، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف مع أصحابه في حجة الوداع، وقد فتح الله لهم فتحاً مبيناً، ونصرهم نصراً عزيزاً، بعد عهدٍ من الضيق والخوف والعيلة (لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده)، فتقضي تلك النفحات العطرة، والروائع النظرة من التاريخ على بقايا اليأس في النفوس، لتعلم أن وعد الله حق، وأن الله ناصر جنده ومعلي كلمته، متى عاد المسلمون لربهم، وعلموا أن الاجتماع سبيل النجاة، وأن الفرقة سبب الهلاك والشتات، وأيقنوا بالنصر وأعدوا له العدة:

الحج جمعٌ يوقف الدنيا على

مجدٍ مضى ووميض مجدٍ آتِ

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين وانصر عبادك الموحدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* رئيس المجلس الأعلى للقضاء عضو هيئة كبار العلماء


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد