Al Jazirah NewsPaper Wednesday  25/11/2009 G Issue 13572
الاربعاء 08 ذو الحجة 1430   العدد  13572
ماذا يريد أرباب الفتنة من استهداف أرض الحرمين؟
أ.د.سليمان بن عبدالله أبا الخيل

 

الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وألف بيننا وجمعنا على قيادة الخير والأمن والسلام، ونسأله أن يعيذنا من الفتن الجسام، والصلاة والسلام على خير الأنام وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد :

فإن هذه الجزيرة المباركة، والوطن الآمن المملكة العربية السعودية لا يزايد أحد على أهميتها وما حباها الله عز وجل من خصائص وميزات، وكنوز وخيرات، ومكتسبات ومقدرات، يكفي أنها بلد الإسلام، ومهد الرسالة، ومهبط الوحي، ومأرز الإيمان، وموئل العقيدة، اصطفاها الله سبحانه واختارها ليجعلها قبلة المسلمين، ومهوى أفئدة المؤمنين، فيها تردد التنزيل، وجمعت خير أمة أخرجت للناس، والله سبحانه يصطفي من الأشخاص والأماكن والأزمنة ما يشاء: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}ومن يستقرئ تأريخ هذه الجزيرة بعد توحدها في ظل الإسلام يجد أنها ظلت مئات السنين في صورة من الفوضى والاضطراب والنزاعات والتفرق، حتى من الله عليها، وهيأ لها ولاية راشدة، وقيادة حكيمة لتكون سبباً في نصرة الدين، وإقامة شريعة الله، وحماية عقيدة التوحيد الصافية، وكان قيامها بهذا الشأن سبباً في التمكين والاستخلاف الذي كتب الله وعده به، وجعله سنة ماضية إلى يوم القيامة لمن أقام دين الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ} {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} .

هذه البداية هي الأساس المتين لدولة التوحيد منذ قامت، وظل الأساس قوياً حتى تم توحيد هذه الأرض الطاهرة، والثرى المبارك على يد الملك المؤسس الباني المغفور له بإذن الله الملك الصالح: عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه، وتم -ولله الحمد- قيام أعظم وحدة في العصر الحاضر على أساس راسخ، وأصل أصيل، ومنهج ثابت، يعتمد حكم الشريعة أصلاً، ونصرة العقيدة والدين هدفاً، والأخذ بأخذ سلف الأمة منهجاً، ونصرة قضايا المسلمين والإسهام بثقلها الريادي والعالمي في دعم كل ما من شأنه وحدة المسلمين وتضامنهم، والوقوف معهم في قضاياهم، والمحن والنوازل التي يقدرها الله سبحانه، وتحل بأي مسلم بل وبكل إنسان على وجه الأرض، معتمدة في ذلك على ما ورد من نصوص الأخوة والنصرة، والوحدة والتآلف، ممثلة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) آخذه بقاعدة الأولويات والموازنة بين فقه المصالح والمفاسد، فلا يعني قيامها بهذا الواجب تدخلاً في شؤون الآخرين أو اعتداء أو لمصلحة طرف على حساب الآخرين، ولذا فإن جمهورية اليمن الشقيقة هي من أول الدول التي تربطها علاقات جوار وأخوة، وساهمت المملكة ودعمت بل ورعت كل ما يحقق مصلحة اليمن الشقيق، وينهض بها، فهذا الشأن من ثوابت المملكة التي قامت عليها ومكنتها من الثبات والاستقرار، وأثمرت ثماراً عظيمة، ونتائج مبهرة، بلغت بها الآفاق، وأوصلتها إلى مصاف الريادة والعالمية، واستمرت هذه الدولة متمسكة بالأصول آخذة بكل سبب يؤدي إلى النهوض والارتقاء، منتهجة منهج الصلاح والإصلاح وتوفير كل أسباب الرفاهية ورغد العيش لمن شرفهم الله بالانتماء لهذا الوطن العظيم المملكة العربية السعودية، يقال ذلك تحدثاً بنعمة الله، وتذكيراً بهذه الأصول، وإظهاراً لقوة البناء والتماسك، وعظم الصلاح والإصلاح الذي تعيشه بلادنا المباركة، ليتم من خلال هذه الصورة الشرعية الوطنية بيان حجم إفساد أولئك العابثين المجرمين المتسللين الغادرين، الذين باعوا ذممهم، واتبعوا أهواءهم، وأصبحوا أداة لدعاة الفتنة والطائفية والإرهاب في تعاون بغيض آثم لا يزايد أحد على أنه تعاون على الإثم والعدوان، بل أعظم الجرم وأعظم الإفساد وفي أي بقعة؟ في بلاد الحرمين، وقبلة المسلمين، وإذا كان الله سبحانه بين في كتابه في نصوص كثيرة أن الصلاح والإصلاح هدف رئيس، ومقصد أكيد من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو سمة عباد الله الصالحين، وبين في مقابل ذلك أن الفساد بكل صوره فساد القول أو فساد الفعل، أو فساد المعتقد، الفساد الحسي والمعنوي كل ذلك مذموم ومبغوض عند الله، وهو من عمل اليهود والمنافقين، وغيرهم من أصناف الكفر وأرباب الفتنة، قال الله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وقال جل شأنه: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، وقال سبحانه عن موسى وأخيه: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}، وقال عن اليهود: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَال لَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }، وقال عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}، وحينما يقف المتأمل على دلالة قوله سبحانه: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} ليرى أن صورة الفساد والساعي؛ مذمومة لا يحبها الله، وليس ثمة فساد يحبه الله، لكن وقوع الفساد بعد الصلاح، واستهداف صلاح قائم تمثله المقومات الشرعية، واللحمة بين الراعي والرعية، وقيام الدين وإقامة العدل فاستهداف هذه الصورة المثالية بنشر الفساد وزعزعة الأمن، وبث الرعب والفوضى أعظم إثماً وجرماً عند الله مما لو كان الأمر بخلاف ذلك، وهذا ما يظهر

قبح فعل أولئك الحوثيين الخونة العابثين الذين كان ديدنهم وشأنهم منذ بدء فتنتهم في بلادهم، وبين بني جنسهم وقومهم الفتنة والفرقة والاختلاف، بل وإيواء كل من يرون فيه أنه يخدم هذا الهدف لهم لا في وطنهم وبلدهم، بل في كل بلدان المنطقة خدمة لمن هذا شأنهم، وتلك سياستهم في المنطقة برمتها، إن من يتابع تأريخ هذه الفتنة المتمثلة في هؤلاء المتسللين ليلفت نظره أول ما يلفت أن هذه التصرفات توحي بالتجرد من القيم والوطنية، والانتماء إلى القبيلة يشعر بالتمرد على السلطة، والتملص من المسؤوليات الشرعية والاجتماعية، ويدل دلالة أكيدة على أن أولئك لا يريدون بفعلهم وفتنتهم إلا الفوضى والفساد وزعزعة الأمن، لأن من يرتكب أمراً من الأمور يجد أنه في ظل وجود الانتماء ولو في أدنى صورة، وفي ظل وجود النزعة القبلية والاجتماعية يواجه ضغوطاً كبيرة لا يتمكن من المواجهة في ظلها إلا إذا كانت ثمت مبرر يخرج به عماهم عليه، ولذا يعجب المرء أنه حتى في ظل قيام الفتنة في الإطار الداخلي أنهم لا يحلمون أجندة يريدون تحقيقها ولا هدفاً يرومون الوصول إليه إلا الفتنة: {َالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}، ولذ وجد فيهم أرباب الفتنة والضلال من دول وجماعات موئلاً ثابتاً، ومأزراً يتخذونه ذريعة لهم للوصول إلى مآربهم، فالدول التي لها أهداف في المنطقة احتضنتهم منذ البداية، ورعتهم بل ودافعت عنهم بكل ما أوتيت، رغم أنه قد يستغرب هذا التواصل المشؤوم عندما يستحضر البعد الأيدلوجي، لكنه غير مستغرب إذا اتفقت الأهداف السياسية التي يراد منها نشر الفوضى الخلاقة في المنطقة، وخدمة الأعداء عموماً بمثل هذه الحركات التي تستنزف قوى المنقطة، وتقوها إلى الانقسام وتنظيم القاعدة الذي حمل لواء الإرهاب في المنطقة، وعانت البلدان عموماً وهذا الوطن الآمن من فتنتهم، وكونوا خلاياهم في الداخل والخارج، وصارت تلك الخلايا مصدر إزعاج وفتنة، فما يمر زمن إلا وتبتلي البلاد بشيء من ذلك، وتستنزف الجهود في مواجهتهم نجد أن صلته بهؤلاء الحوثيين لا تخفى، ولم تقتصر هذه العلاقة على الدعم المادي فحسب بل شمل التأييد والمؤازرة بل والتجنيد والتجييش لكل من رام بلده بسوء، ولذا فلا غرابة أن كانت مرابع الحوثيين مقصداً للفارين من بلادهم، الذين عادوا وطنهم وأمتهم ومجتمعهم، وما حصل من تصريحات متزامنة بتقاذف الاتهامات بين الحوثيين والقاعدة ما هي إلا ذر للرماد على العيون، ومحاولة لصرف الأنظار عن هذه العلاقة الآثمة، وتوظيف ذلك في تسويق أهداف، وتبرئة هؤلاء من الإرهاب والفساد، وإلا فإن الحقيقية هي توزيع للأدوار بين هذين الحليفين الذي جمعهما فساد الفكر وفساد القول والفعل، وإذا كانوا يحاولون هذه المحاولة اليائسة فكيف يمكنهم ذلك مع ما قاموا به من أعمال إجرامية في بلادهم، فقد قتلوا الأطفال والشيوخ، ووظفوا الأطفال في مثل هذه الأعمال، وقاموا بأعظم فساد، وعانى منهم أول ما عانى وطنهم وبلدهم، ثم حاولوا توسيع دائرة هذا الفساد في المنطقة باستهداف هذا الوطن الغالي، وفي توقيت يدل على تأصل الشر والفساد في عمل هذه الزمرة الباغية، في استقبال الحجيج، وورود المسلمين من كل فج عميق إلى هذه البقاع الطاهرة ليؤدوا مناسكهم، ويقضوا تفثهم، ولذا فإن عملهم وفتنتهم جريمة بكل ما يحمله الإجرام من معنى، بل جرائم متتالية: أعظمها: استهداف بلاد بما حباها الله من ميزات وخصائص، وخدمة أعداء الدين وأرباب الفتنة من الصفويين بهذه المساهمة الشيطانية، ومنها : انتهاك حرمة الأشهر الحرم، التي أخبر الله ببقاء حرمتها إلى قيام الساعة، قال الله سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}، ومنها: تجنيد وتجييش من يرونهم يخدمونهم في هذا الهدف من الجماعات والأفكار المنحرفة، ومنها توظيف الأطفال والنساء والشيوخ في هذه المواجهة، والتترس بهم، ومنها التأثير على موسم الحج بمثل هذه الأعمال الغوغائية، واستنزاف جهود المسلمين ممن يزعمون الإسلام، ومع عظم الابتلاء، وفداحة هذا الجرم إلا أننا واثقون بوعد الله، مطمئنون بحفظ الله لهذه البلاد المباركة، مغتبطون مستبشرون بما قام به رجال أمننا البواسل، وقواتنا المسلحة المباركة، التي أثبتت بما يقطع الطريق على كل مفسد ومبطل أنها قادرة -بعون الله وتأييده- على ردع المعتدين المجرمين، وذلك بتوفيق الله لها، ثم بما خصها به ولاة أمرنا الأوفياء، وقيادتنا الحكيمة من إعداد وتهيئة، ورعاية وعناية، وتذليل لكل العقبات، وتطوير للطاقات والقدرات حتى أصبحت هذه القوات في أعلى درجات الجاهزية والاستعداد، والقدرة على المباغتة والمفاجأة بما تلقوه وعاشوه، وبما يحملونه من بعد إيماني عقدي، يرون فيه أن الدفاع عن أرض الحرمين، ووطن الإسلام المملكة العربية السعودية رباط في سبيل الله، وجهاد لإعلاء كلمة الله، وحماية لأمن المسلمين وحرماتهم، وبما يحملونه من بعد وطني يحملهم عليه محبتهم لهذا الوطن العزيز الذي تهون دونه كل التضحيات، فالحمد لله الذي هيأهم لهذه المهمة المقدسة، والحمد لله على تلك الروح العالية والمعنوية المرتفعة التي هي من أعظم مقومات النصر الذي تحقق بما أعلنه ولاة أمرنا من أحكام السيطرة على البلاد وردع هؤلاء المعتدين، وإن حقاً على كل مواطن شرف بالانتماء إلى هذا الوطن، بل كل مسلم أن يدرك عظم هذه الفتنة، وخطورة هذا الاستهداف، وجرائم أولئك المتسللين، وأن ينظر في مقابل هذه المحنة إلى ما أنعم الله به علينا، وما هيأ له ولاة أمرنا وما حفظ الله به بلادنا فيحمد الله سبحانه ويشكره على هذه النعم المتوالية، والآلاء المتتابعة ثم يلهج بالثناء والدعاء لولاة أمرنا وعلى رأسهم ملك الحكمة والسداد والإنسانية المليك المفدى خادم الحرمين الشريفين - أيده الله بتأييده، ونصره بنصرة، وأمد في عمره على الطاعة والأيمان، وكذا عضده الأمين، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وسمو نائبة الثاني صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، جعلهم الله ذخراً وفخراً وعزاً للإسلام، ونصر بهم الدين وأهله، ثم التقدير والإجلال لرجال أمننا وحراس وطننا البواسل، نسأل الله أن يتقبل من قضى منهم شهيداً، وأن يخلفه في أهله وولده خيراً، وأن يبارك في البقية الباقية، ويجعلهم حماة لدينه، ذائدين عن بلاد الإسلام والمسلمين.

وبعد: فإن هذه الفتنة التي نسأل الله أن يمكن منها ويقضي على أربابها توجب على الجميع تقوى الله سبحانه، والشعور بتحمل المسؤولية كاملة، كما أنها درس لبعض أولئك الشباب الذين تورطوا في الفكر المنحرف وأعمال الإرهاب أن يدركوا أنهم أول ما يخدمون أعداء الدين باسم الدين، والدين من أعمالهم براء، فليعودوا إلى رشدهم، ولينظروا إلى ما حصل نظر اعتبار وتفكر ليكون لهم في ذلك مزدجر، نسأل الله سبحانه أن يحفظ على هذه البلاد أمنها ورخاءها واستقرارها، وأن يحفظ ولاة أمرنا من كل سوء ومكروه، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن،وأن يدفع عن هذه البلاد مكر الماكرين، وفساد المفسدين، وعدوان المعتدين إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد