من الجوانب التي تنال اهتمام كافة مجالس الإدارات في الشركات المحلية والعالمية اليوم، التفكير في بناء استراتيجية أعمال جديدة، إما بالبحث عن تحالفات أو الاستحواذ على شركات أخرى أو الدخول في اندماجات مع آخرين.. ولعل فلسفة الاندماج أصبحت تنال الاهتمام الأكبر من هذه الاستراتيجيات، ولكن لماذا تبحث الشركات عن الاندماج فيما بينها؟ هل لتقديم خدماتها ومنتجاتها بجودة أعلى للمستهلكين أم حتى تتمكن من بيع هذه المنتجات بأسعار أقل؟ بالطبع لا يمكن أن يقتنع عاقل بأن الشركات الخاصة أو قطاعات الأعمال في أي دولة، مهما كانت مثاليتها، ستتحرك بدافع تقديم جودة أعلى دون الحصول على عائد أكبر أو بدافع بيع منتجاتها بأسعار أقل دون أن تنالها فائدة.
ومن جانب آخر، أليس في هذه الاندماجات نوع من العودة للوراء إلى عصر الاحتكارات؟ فالدول والحكومات كانت تتولى دفة النشاط الاقتصادي في غالبية الدول في الماضي، واُنتقدت انتقادات لاذعة وأجبرت في النهاية - في ضوء مفاوضات التجارة العالمية، وفي سياق (منظمة التجارة العالمية) -، على أن تقوم ببيع شركاتها وخصخصتها وتقسيمها على مواطنيها بشكل أدى إلى تشتت الملكيات وتبعثرها بين مساهمين ومجالس إدارات وإدارات تنفيذية.. بعد كل ذلك يأتي النظام الرأسمالي الحر اليوم بفلسفات وتوجهات جديدة تعرف بالاندماج أو الاستحواذ لتمكين الشركات المتبعثرة من التجمع والتحالف من جديد، ولكن هذه المرة ضد من؟
بداية نرغب في أن نقارن بين ثلاثة أوضاع لأي شركة:
الوضع الأول: أن تكون هذه الشركة تحت إدارة وإشراف حكومي كامل، وهو الوضع الذي رفضته منظمة التجارة العالمية وأجبرت كافة الحكومات على بيع هذه الشركات وخصخصتها وإجبارها على إلغاء الدعم المفروض لصالح المستهلكين.
الوضع الثاني: وهو يمثل الوضع الحالي أن ملكية وإدارة الشركات توزعت بين مساهمين ومجالس إدارات وإدارات تنفيذية.
الوضع الثالث: وهو الوضع الحر للأسواق الذي أصبح يجبر الشركات على البحث عن تحالفات أو اندماجات أو استحواذات..
ودعنا نتحدث عن الاندماج فقط.. هل الاندماج يمثل وضعاً أفضل للمنتجين (الشركات) أم للمستهلكين؟ وهل توجد ضمانات أن لا يؤدي في النهاية إلى تكوين احتكارات قاسية؟ لذلك، نحتاج أن نعرف كلاً من الاحتكار والاندماج؛ لتقصي مدى وجود تطابق بينهما؟
الاحتكار هو استئثار البائع بتحديد السعر بعد تطهير السوق من المنافسين.. أما الاندماج بين الشركات، فهو بمثابة القضاء على المنافسين بوضعهم تحت وصاية الشركة أو بدحرهم من السوق تماماً.. يعني لو افترضنا أنه في سوق التجزئة للمواد الاستهلاكية السعودي يوجد نحو 20 شركة كبرى تعمل بالسوق، وقامت إحدى هذه الشركات بالاندماج أو الاستحواذ على أربعة شركات منها، فإنها قطعاً ستحتكر السوق، وستتحكم في السعر والجودة والكميات المطروحة والمعروضة وأوان طرحها.. بمعنى أننا في النهاية سنصل إلى وضع تتحول فيه الكيانات المندمجة إلى كيان احتكاري قوي.. وهناك العديد من الأمثلة على اندماجات قادت إلى إيجاد شركات تسيطر على مجالات أو أنشطة معينة، مثل الاندماج بين شركتي EV1Servers وThe Planet والذي نتج منه شركة تعتبر هي أكبر شركة في العالم في مجال المزودات.. أيضا الاندماج المنتظر بين شركة إعمار العقارية الإماراتية مع دبي القابضة، الجميع يعلم أنه سينتج منه كيان هائل الضخامة.
والاندماج لا يعتبر فلسفة حديثة في أدبيات الاقتصاد، بل بدأ عام 1897م تقريباً، ومر تاريخياً بست مراحل مميزة، ارتبطت المرحلة الأولى (عام 1897 -1904) بالثورة الصناعية ونتج منها عدد من الكتل الاقتصادية الكبيرة مثل شركة Kodak.. ثم حدثت المرحلة الثانية خلال فترة ما بين الحرب العالمية الأولى حتى فترة الكساد العظيم ونتج منها شركات كبرى أيضاً، أهمها جنرال موتورز وIBM ثم جاءت المرحلة الثالثة خلال الستينيات مع ظهور شركات مثل ITT أما المرحلة الرابعة فحدثت خلال الثمانينيات ثم جاءت المرحلة الخامسة خلال 1993 -1995 تأثراً بأفكار العولمة (يراجع عبدالرحمن إسماعيل).. وأخيراً تجددت الدعوة للاندماجات في عام 2008-2009 نتيجة حدوث الأزمة المالية العالمية، ولكن هل نجحت هذه الاندماجات؟ وحتى إذا نجحت في البيئات الغربية.. فهل يمكن أن تنجح في بيئتنا العربية؟
بعض الدراسات تحدثت عن نسبة نجاح لاندماجات سابقة لم تتعدَّ 30% وبعضها رفعت هذه النسبة إلى 50%.. وإذا كانت هذه النسبة أعلى، فيهمنا أن نتعرف على أسباب فشل النسبة الضئيلة منها؛ لبحث مدى انطباق مسببات فشل النسبة الصغيرة على طبيعة بيئتنا العربية.
أبرز أسباب فشل الاندماجات في أنها غالباً ما تتم في ظروف صعبة وقاسية، وتكون فيها الشركات غير مهيأة للاندماج؛ بمعنى أن الاندماج الذي يتم استجابة لأزمة طارئة أو مشكلات مفاجئة غالباً ما يكتب عليه بالفشل.. أما أبرز أسباب الفشل فترجع إلى تبني (أسلوب القص واللصق) دونما السعي لدراسة وبحث مدى التآلف بين الشركات التي سيتم دمجها؛ فتصبح العملية بمثابة قيام الجراح بقطع أعضاء من إنسان والسعي للصقها في إنسان آخر.. هذه العملية لا تنجح إلا عندما يكون الجزء المطلوب دمجه أصغر ما يمكن مع ضرورة الحرص على إيجاد وتهيئة بيئة الجسم الآخر لتقبله وعدم لفظه.. فهناك شركات تسعى للاندماج رغم وجود اختلافات جذرية في فلسفتها الإدارية وثقافتها واستراتيجياتها بل أحياناً يوجد تضارب بين مصالح طرفي الاندماج. وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على البيئة العربية، حيث تلعب العوامل النفسية والخوف من سيطرة الطرف الآخر العنصر الأكثر أهمية لفشل الاندماجات، بل غالباً ما لا توجد ثقة بين طرفي الاندماج.. ولنجاح الاندماج لابد أن يقبل كل طرف تغييب ذاته في سبيل إحياء الكيان الجديد، ولكن ذلك في حد ذاته يؤدي إلى خسارة تاريخ (ربما يكون زاهراً) للشركتين أو أي منهما. وفي اعتقادي أن البيئة العربية مهيأة لنجاح الاستحواذات أكثر من نجاح الاندماجات؛ فحتى التحالفات يكتب عليها بالفشل نتيجة حساسية الأطراف المتحالفة تجاه تصرفات بعضها البعض. إلا أنه رغم كل ذلك، فإن الاندماج بين الشركات أصبح ضرورة في قطاعات معينة في البيئة السعودية، من أبرزها قطاعات التمويل الاستهلاكي، والعقارات بوجه عام؛ لأنه برز بالسوق العديد من الفرص الاستثمارية التي تزيد عن حجم الشركات العاملة فيه منفردة؛ فهل الشركات الكبرى قادرة فعلاً على الاندماج والالتئام الصحيح بعيداً عن القص واللصق؟
محلل اقتصادي
Hassan14369@hotmail.com