لطالما أثار الشارع المصري إعجابي بحيويته وتفاعله واستجابته العارمة والسريعة للقضايا العربية والقومية، وكانت صلاة الجمعة عادة هي صافرة الانطلاق, أو النداء السري الذي بعدها تتحرك الحشود للتعبير عن غضبها واحتجاجها ضد أي من التهديدات التي تطال الجسد العربي الكبير المسجى من الخليج للمحيط.
ولكن الجمعة الماضية خلخلت ذلك الإعجاب، فقد انطلقت الجموع عقب الصلاة باتجاه السفارة الجزائرية، لتقوم بعمليات شغب وتدمير طال السفارة ومحيطها، على خلفية مباراة كرة قدم بين القطرين، وباعتقادي أن الخطر في قضية الوصول للسفارة، يكمن في أنه يختزل أبعادا عدة، تتجاوز الهياج المؤقت لغوغائية مدرجات الملاعب، لتطال الهوية الوطنية للغريم والمتمثل في رموزه بأبعادها السياسية والقومية.
وبالتأكيد جميع المواقف النارية والملتهبة من الدولتين - مصر والجزائر- جاءت ركاما لتصعيد إعلامي وشحن نفسي استمر لفترة طويلة يقال إنها بدأت عام 82, هذا الشحن أدى إلى تثوير المجاميع بشكل منفلت وغير قابل للضبط، فهل هي داحس والغبراء العصر الجديد التي جاءت نتيجة خلاف حول فرسي سباق (داحس - الغبراء) بين قبيلتي عبس وفزارة واستمرت أربعين عاما؟.
هل البنى الثقافية لدى العرب ما برحت جاهلية؟.
فالعامة يشبههم المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في نظريته حول (سيكولوجية الجماهير) بجسد العملاق الهائل الذي يمتلك رأسا صغيرا خاليا من الدماغ، ومن الممكن تحريك العملاق واستثماره في أمور شتى بسهولة.
والمحزن في الموضوع أن قادة وصناع الرأي لم يحاولوا أن يكبحوا جماح الحملات، ويأخذوها إلى الساحة النبيلة ذات القيم الرياضية السامية والروح المتسامحة، بل صبوا زيتا على النار في تغييب كامل للغة العقل والحوار، عندها دخل على الخط السياسيون، بحيث سعوا لاستثمار الغضب الشعبي لحساب المصالح والحسابات السياسية.
وظهرت شعارات تتكلم عن الكرامة والمكانة والرؤوس المرفوعة التي تأبى الذل، ولكن لا أدري ما علاقة الكرامة الوطنية بكومة حجارة قذفها مجموعة من غوغائي الملاعب فطالت (باص) لاعبين؟؟
ولا أدري هل في ذلك الباص تنحصر كرامة الوطن والمواطن؟ ام أنها تمتد بامتداد تهتك البنية التحتية في ذلك البلد، وارتفاع نسب البطالة لأرقام مهولة، وهجرة العقول، وبنية إدارية قديمة يتآكلها الفساد، وحوادث غرق عبارات، وتهدم مبانٍ، واصطدام قطارات وحافلات يروح ضحيتها المئات..... القائمة طويلة ولكنها موجودة بل وتتعاظم وتطول عاما إثر الآخر, ولم يتحدث أحد عن علاقتها بالكرامة الوطنية.
مع إغفال قضية جوهرية هي أن الجيشين والاحتقان الشعبي في الشارع قد يكون ردة فعل وإسقاط لحالة غضب داخلي مكبوت تحاول أن تستغل أي مناسبة لتمارس نوعا من التنفيس لانفعالات سلبية يعانون منها نتيجة لعدة أمور قد يكون منها، إحساسهم بالعبث واللاجدوى.
في المشهد هناك تغييب كامل للأصوات العاقلة المعتدلة، والتي تمثل عادة صمامات الأمان بالنسبة لصناعة الرأي وقيادة التوجهات.
لكن أخشى ما أخشاه أن ينطبق على المشهد المثل الشعبي الذي يقول: (وين عاقلهم، قالوا هالمربط).