يقول المفكر المعروف جورج طرابيشي في اللقاء الممتع الذي أجراه معه الأستاذ ممدوح المهيني في جريدة الرياض: (هل اليابان والصين دينياً وثقافياً ولغوياً وإثنياً أقرب إلى الغرب منا؟!.لا نحن أقرب بكثير إلى الرومان واليونان وذهبنا إلى إسبانيا ووصلنا إلى مقدونيا، وذهبت تركيا حتى وصلت إلى حدود النمسا. إذن نحن والغرب على صلة مباشرة فلماذا ينجح الآن الصينيون، والكوريون، مثلما نجح من قبل اليابانيون في التغلب على هذه العقدة؟!..في اعتقادي أنهم واجهوا المشكلات نفسها، وطرحت لديهم الأسئلة نفسها، ولكن ما حدث في اليابان، وما يحدث اليوم في جنوب شرق آسيا وفي الصين، هو أنهم قرروا أن (ردهم) على الغرب لا يكون إلا بقدر ما (يتقربون) إليه وأن يسبقوه في مجاله وفي ميدانه). وهنا بيت القصيد، والسبب الرئيس الذي كان وراء تفوقهم التنموي وفشلنا التنموي.
اخترنا نحن المواجهة (بالابتعاد) عنهم وعن ثقافتهم، وتكريس الكراهية والبغضاء للغرب وكل ما يمت لهم بصلة؛ وتطرف بعضهم فوظف العنف أو (الجهاد)، والقتل والاغتيال والدم والتفجير، في مواجهة الغرب، في تصرفات أشبه ما تكون بالمعارك (الدنكشوتية)، فتشكل مع الزمن نوعٌ من السياج النفسي، أحاط بثقافتنا، ومنعنا من التأثر بالغرب، ومنجزات الغرب الحضارية، واختزل الثقافة المتفوقة هناك في العري والتهتك الأخلاقي، وتجاوز حقيقة أن كل منجزات البشرية (المعاصرة) جاءت من هناك؛ وفي المحصلة تجذرت كل أمراض التخلف في مجتمعاتنا، وأفرزنا جماعات تقول إنها (إسلامية)، تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى (إبعادنا) عن الغرب، ومنع التواصل معه بشتى الطرق والحيل والذرائع، بينما اختار اليابانيون والصينيون والكوريون الجنوبيون (القرب) منه، والتعلم من تفوقه، والتتلمذ على علمائه، والانطلاق مما وصلت إليه منجزاته في كل المجالات، والنتيجة كما ترون بأم أعينكم: اقتصاد في منتهى القوة، استقرار وأمن، وحضارة قادمة بقوة لتمسك بزمام العالم؛ فكل التوقعات المبنية على أرقام النمو الاقتصادي تقول إن الصين، ومعها اليابان، وكوريا الجنوبية، وبقية النمور الآسيوية الأخرى، هي الأحصنة التي ستقود العالم في القرن الواحد والعشرين إذا ما استمر نموها الاقتصادي كما هو عليه.
وهذا أيضاً ما ينطبق على الهند. فالهند تضم متحفاً من الإثنيات واللغات المختلفة، وكذلك العديد من الأديان. (أخذت) من الغرب علومه ومنجزاته، واستفادت من تجاربه المعرفية والسياسية في كيفية التعامل مع نسيجها الاجتماعي المختلف والمتنوع، و(اقتربت) منه ثقافياً، بينما اتخذت جارتها باكستان أسلوب الابتعاد، و(الكراهية والبغضاء)، ومناصبة الغرب العداء، متأثرة بذات (الأيديولوجيا) التي نعانيها، ونئن من وطأتها، والنتيجة تفوق هندي منقطع النظير كما تقول الأرقام، وتخلف باكستاني منقطع النظير - أيضاً - كما تقول الأرقام، على الرغم من أن التماثل العرقي والديني في الباكستان أدعى للتلاحم والاستقرار من الهند المتعدد الأديان واللغات والأعراق الإثنيات، ومع ذلك لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع أو نقرأ عن عملية انتحارية، أو كما يسميها الصحويون (استشهادية)، تهز واحدة من مدن باكستان، إضافة إلى حروب أهلية، وأمن منفلت، وتنمية متعثرة، وفقر مدقع، ودماء تُهدر بين أبناء البلد الواحد والدين الواحد بل وربما العرق الواحد.
وستبقى الشعوب الناطقة بالعربية، ومعها الباكستان، وإيران، وكذلك أفغانستان، في قاع التخلف، حتى يتعلموا من الغرب، ويستفيدوا من تجاربه، ويحذوا حذو دول الشرق الأقصى.. إنسان الشرق الأقصى عرف أن القوة والمنعة والتحضر تختزلها عبارة مؤداها (الاقتصاد أولاً)، أما نحن فتركنا الحلول الاقتصادية وراء ظهورنا، ومرت بنا الحلول الحضارية متجهة إلى الشرق الأقصى، و(نكصنا) نبحث في تراثنا عن حلول لمآزقنا، فلم نجد - للأسف - ما نقيل به عثراتنا الحضارية.. إلى اللقاء.