هذه الساحات المباركة التي تحيط بها الجبال وتشكل ما يشبه العقد غير المكتمل، أو ما يشبه القوس، تشعر وأنت تشاهدها أن بينك وبينها علاقة قديمة، علاقة حب، علاقة ارتباط وثيق مثل ارتباط هذه الملايين من المسلمين بعضهم ببعض، وهذا جبل صغير يتوسطها أنه جبل عرفات، أو جبل الرحمة يلتحم بالقلوب في يوم عرفة، ومع أن عرفات خارج حدود الحرم المكي الشريف إلا أنك تحس إحساساً عميقاً بأنك في مركز الكون وأن كل صخرة أو رملة من صخور ورمال عرفات حرم مثل الكعبة المشرفة، كما تشعر بأن هذه الآلاف المؤلفة التي اجتمعت خاشعة خاضعة ملبية مسبحة تنشد الأمن والأمان والعفو والرحمة تشعر بأنها وحدة واحدة لا تنفصم، بل إنها جسم واحد التأمت في هذا اليوم، أليس (الحج عرفة) ويوم عرفة يتألق هذا اليوم عظمةً، ويتفوق اقتداراً على سائر أيام الله، إنه موقف عظيم، ومجمع جليل لوفد الله في هذا اليوم المبارك، حيث يعتبر أعظم مجامع الدنيا، إنه مجمع خيار عباد الله، يوم مجامع الأفئدة، إنه استجابة الله سبحانه لدعاء نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام عندما يرفع قواعد البيت الحرام، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} نعم إنه مجمع الأفئدة التي هوت أي: أسرعت إلى هذا الموقع المبارك شوقاً ووداداً وحباً، هنا تسكب العبرات، ترجو هذه الأفئدة الله سبحانه وتعالى إقالة العثرات، وعبَّرت عن هذا الرجاء العيون التي فاضت دمعاً اشتياقاً لخالقها، هذه القلوب الخاضعة الخاشعة لربها، وهذه الأنفس الآمنة المطمئنة المستقرة إنه يومها، يوم الصدق والطهر والنقاء، يوم صفاء القلوب، يوم بسط الأكف جميعاً إلى رب الأرض والسماء، إنه يوم تفتح فيه أبواب الرحمة، فمن أتى بفؤاده سيكون أسعد الناس ذكراً لربه، وأكثرهم خضوعاً لله سبحانه وتعالى، وأشدهم خشية له، وأهنأهم حياة، هنا في عرفات الله يجأر المسلمون بالدعاء تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى في عرفات وفي كل وقت عموماً. قال تعالى: {أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِيْ عَنِّي فَإنِّي قَرِيْبٌ أُجِيْبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَانِ}. وارتبط الدعاء بالقلب، بل ارتبطت شعائر الحج بالقلب، قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وفي السياق ذاته قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إن الدعاء وفي هذا اليوم بالذات وفي عرفات: غيث للقلب، وسكون للنفس، وانشراح للصدر، وراحة للضمير، ومهما تحدثت الألسن، وكتبت الأقلام، وتفتحت القرائح فإنها لا تستطيع وصف هذا الموقف العظيم، هذا الموقف الذي يباهي الله جلّت قدرته به ملائكته، إنه يوم إعلان الثبات على الإيمان، بل إنه أفضل يوم طلعت عليه الشمس كما يقرر ذلك سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تشرق شمسه في القلوب قبل إشراقها في السماء، ونسيم عرفات يسري في الأرواح قبل سريانه على الأرض، حيث إن اجتماع يوم عرفة... اجتماع ثلة مختارة من أمة سيد البشر النبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كل عام، من لدن العهد النبوي المبارك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتسمو وتتألق في اجتماعها هذا لأنها تنفذ أمر الله سبحانه وتعالى، وتتبع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في نسكه وتقتبس من أسرار خطبه صلى الله عليه وسلم وسمو كلامه، ومواعظه في الحج ولا سيما قوله صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة...) كلمتان فقط.. لكنهما كتاب.. بل كتب.. إنه إعلان صريح بأهمية هذا اليوم.. عبارة لا تنسي، وذلك لنصاعة بيانها وجزالة لفظها... نعم الحج عرفة.. أعلن ذلك صاحب الرسالة الخالدة الذي أوتي جوامع الكلم، كما علم صلى الله عليه وسلم أمته ذلك تطبيقاً وبسيرته العطرة التي سلمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأجيال إضافة إلى ما انسكب في قلوبهم من حب انبثق ضياؤه من ذلك النور الذي بعثه الله رحمةً للعالمين.
وعند تتبع أدعيته في هذا اليوم ولا سيما إعلان الوحدانية لله سبحانه وتعالى وتكرارها {لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} تظهر لنا بعض جوانب سريرته النقية، وبصيرته الوضّاءة صلى الله عليه وسلم وتكرار الوحدانية ليس بتحريك الشفتين فقط وإنما إقرار بالقلب وتصديق بالعمل.
وجزاء يوم عرفة... جزاء كبير عظيم يستبشر به كل مسلم، أليست أكبر بشرى أن يقبل أصحاب الأكف المبسوطة بالدعاء، والقلب المتعلقة بخالقها من ذوي الأردية البيضاء؟ وأن يقيل عثراتهم، ويغفر لهم، ويعتقهم من النار. قال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عزَّ وجلَّ فيه عبداً أو أمةً من النار من يوم عرفة).
مدير عام التربية والتعليم بمنطقة المدينة المنورة