حين يُبحر الإنسان في كلام العظماء، ويتأمل في أقوالهم، ويدقق النظر في أبعادها ودلالاتها، ويغوص في روائع ألفاظهم ووحي معانيهم، لا يملك سوى أن يقف مشدوهاً أمام ذلك الكلام البديع الذي يتدفَّق من ألسنتهم وتجود به أقلامهم، ويدرك في الوقت نفسه أنَّ كل تلك الأحرف البليغة، والأساليب المتقنة لم تأتِ إلا نتيجةً طبيعيةً لحكمةٍ راسخة، وثقافةٍ واسعة، ومراعاةٍ دقيقةٍ للموقف، وملاءَمةٍ متوازيةٍ مع السياق، فلا غرو ألا تبتغي تلك الأقوال عن الجمال بديلا، ولا عن البلاغة تحويلا.
بين يدي في هذه اللحظة كتابٌ نفيسٌ بعنوان: (خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود: خُطَبٌ وكَلِمَات)، وقد تزيَّن الغلاف بصورة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله -حفظه الله- بابتسامته المعهودة وبساطته المعتادة ونظرته الثاقبة وهو يلقي إحدى كلماته في مناسبة سابقة.
وهذا الكتاب من إصدارات (دارة الملك عبد العزيز) التي قامت مشكورةً بطباعته عام 1428هـ وذلك بمناسبة مرور عامين على توليه -حفظه الله- مقاليد الحكم، وقد حوى هذا السِفْرُ الضخمُ سِجلاً مختاراً من الكلمات والخطب التي كان الملك عبد الله قد ألقاها في مناسباتٍ مختلفة، وهو -أي هذا الكتاب- يُوثِّقُ هذه الأقوال بدءاً من عام 1402هـ حين توليه مهام ولاية العهد وحتى شهر ربيع الأول من عام 1427هـ بعد توليه الحكم.
ولستُ أنوي في هذا المقام أن أبيِّن البلاغة الفائقة، والأساليب البديعة التي يفيض بها الكتاب، وتتدفق بها كلماته - حفظه الله- وخطبه في جميع المناسبات وفي مختلف المواقف، فهذه الأمور سيتبينها المتلقي المتأمل لأول وهلة، ثم إنها تحتاج إلى مساحة أوسع وعرض أشمل، أما هنا فقد أردتُ أن أسلط الضوء بإيجاز في هذا العرض السريع على جانب واحد من تلك البلاغة، وهي بلاغته - حفظه الله ورعاه- في الاستشهاد بآيات القرآن الكريم.
إنَّ من يتأمل في الخطب والكلمات التي يلقيها الملك عبد الله في كثير من المناسبات يلحظ أنه يستشهد بالقرآن الكريم كلما استدعى الموقف ذلك، وهذا أمرٌ بدهي، فهو إنسان مسلم يدرك أنَّ القرآن الكريم هو الدستور الأول للمسلمين، وبتعاليمه قامت هذه الدولة المباركة، إلا أنَّ الذي يلفت النظر في هذا السياق هو دقة ذلك الاستشهاد وبراعة اختيار الآية المستشهد بها لتتناسب مع الموقف، مستعيناً بها على دعم حجة أو نقض فرية؛ ولذا يلحظ المتأمل لخطبه وكلامه -حفظه الله- أنه بارعٌ أولاً في اختيار الآية التي يستشهد بها، وقادرٌ ثانياً على وضعها في المكان الصحيح لها بين ثنايا الخطبة أو الكلمة الملقاة، ومبدعٌ ثالثاً -وهو الأعجب من هذا وذاك- في رسم ذلك التناغم بين هذا الاستشهاد القرآني وبين السياق الوارد فيه المتمثل في المشهد المراد التحدث عنه.
ولكي لا يكون كلامنا تنظيراً دون تطبيق أو ادِّعاءً دون دليلٍ وبرهان أوردُ نموذجاً من استشهاداته - حفظه الله- لكي يتبين للقارئ تلك الدقة التي أوضحتُها، وتلك البراعة التي أشرتُ إليها.
ففي كلمةٍ ارتجلها - حفظه الله - خلال ارتدائه الزي الرسمي لجامعة الملك فهد وتسلمه الدكتوراه الفخرية لها في 8-8-1423هـ الموافق 14-10- 2002م إبان ولايته للعهد.. في تلك الكلمة عبر في بدايتها عن شكره وسعادته بهذه المناسبة، ثم شرع في توجيه الطلاب ودعوتهم إلى التمسك بالدين الحنيف بلا إفراط ولا تفريط - وتأمل هذه الدعوة الحكيمة المستشرفة للمستقبل - موضحاً أنَّ الإسلام دين الاعتدال والوسطية والحكمة، واستشهد على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل: 125)، وبقوله سبحانه وتعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه: 43، 44)، وبعد هذا نبَّه الطلاب على تيارات الانحراف والانحلال من جهة، وتيارات الغلو والتطرف من جهة أخرى.
ولا أظن أنه سيفوت القارئ بلاغة هذا الاستشهاد وروعته، فاختيار هذين الشاهدين يتسق تمام الاتساق مع ما يريد -حفظه الله- أن يوصله إلى الطلاب، فقد كان يؤكد كثيراً على الوسطية في كل موقف، وهذا الموقف من أكد المواقف التي تستدعي التأكيد على ذلك، لأنه يدرك أنه يخاطب طلاباً في مقتبل العمر ولم يخوضوا بعد معترك الحياة ويدخلوا في معمعتها، فهم شباب تدب فيهم روح الحماس والمغامرة، وإذا لم يوجهوا التوجيه الصحيح في هذا الوقت فربما زلت بهم الأقدام وتلقَّفتهم أيدي المجرمين والاستغلاليين.
ثم أعد النظر في هاتين الآيتين المستشهد بهما، ستلحظ أنَّ الآية الأولى توجيه إلهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه مع المشركين، والثانية توجيه إلهي إلى موسى وهارون في خطابهما مع فرعون، وقد أراد أن يبين - حفظه الله - من خلال ذلك أنَّ هذه الدعوة السمحة والوسطية المعتدلة هي نهج جميع الأنبياء على اختلاف أقوامهم، ولذلك تجد تناغماً رائعاً بين هذا الاستشهاد وبين ما جاء بعده من حديث يدعو فيه إلى الانتباه إلى تيارات الانحراف والغلو، وهذا التناغم يؤكد الدعوة إلى الوسطية وعدم الإفراط أو التفريط، ويزيد -حفظه الله- تأكيد هذا التوجيه وتعزيزه باستشهادٍ آخر من السنة النبوية من قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين).
ولا يقف الاستشهاد عند هذا الحد في هذه الكلمة الخالدة، بل نراه - حفظه الله- يتكأ على آية كريمة أخرى في سياق آخر، وذلك حين شرع ينبه أبناءه الطلاب على اجتناب التعالم والخوض في الأمور التي لم يكتسبوا الخبرة فيها بعد، فنراه يستشهد على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}(الإسراء: 36)، وهو استشهاد بليغ يتناغم مع الموقف ويتسق مع حال المخاطبين الذين يستقبلون هذا التوجيه الحكيم.
وفي كلمة أخرى وجهها إلى المواطنين إثر التفجيرات التي حدثت في الرياض في 12-3- 1424هـ الموافق 13-5-2003م إبان ولايته نراه - حفظه الله - يصف هؤلاء الإرهابيين بالمجرمين المتجردين من القيم وبالخارجين على القيم الأخلاقية ويستشهد بآيتين تعززان من هذا الوصف وذلك الموقف، وذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(لنساء: 93)، والثانية قوله سبحانه وتعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}(المائدة: 32).
لقد جاء هذا الاستشهاد البديع في مكانه المناسب، وموضعه الصحيح، وقد استثمره الملك عبد الله - حفظه الله - بشكل رائع ومتميز في بيان مصير هؤلاء القتلة، والمآل الذي سيؤولون إليه يوم القيامة، وبيان حالهم في الدنيا ومدى الفساد الذي يمكن أن يصل إليه إجرامهم وإرهابهم المقيت، وهو ما من شأنه أن يترك الأثر البالغ في نفوس المخاطبين لاستشعار فداحة الجرم وفظاعة ما حصل.
وهو -حفظه الله- إذ يستشهد بهاتين الآيتين تحديدا يريد أن يكشف عن شناعة هذا الجرم، وأنَّ هذا الموقف الذي تتخذه الدولة تجاه هذه الأفعال المشينة لم يكن قد أتى من فراغ، بل هو موقف تأسس على الدستور الذي تسير على نهجه هذه الدولة المباركة وهو القرآن الكريم.
ومن الخصائص الأسلوبية التي تلفت النظر في استشهادات الملك عبد الله -أيده الله- القرآنية البراعة في افتتاح النصوص بآياتٍ تؤسس لموضوع الكلمة أو الخطبة التي يريد أن يلقيها وتمهد له، ومتناغمةً مع المناسبة التي استدعت إلقاء هذه الكلمة أو تلك الخطبة، ولا شكَّ أنَّ مثل هذا الافتتاح يثير في المخاطب كوامن الشوق لمعرفة المقصد، ويجعله في كامل الاستعداد والتهيؤ لتلقي ما يود أن يوصله إليه المتكلم، والنماذج على ذلك كثيرة، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
ففي الكلمة التي وجهها خادم الحرمين إلى مؤتمر القمة العربي في دورته الرابعة عشرة في 13-1- 1423هـ الموافق 27-3-2002م حين كان ولياً للعهد نجد أنه يستهلها بقوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46)، وفي حفل افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة الثالثة لمجلس الشورى في 17-3-1423هـ الموافق 29- 5-2002م إبان ولايته للعهد نراه - حفظه الله- يفتتح تلك الكلمة بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) قبل كل شيء، وفي الكلمة الموجهة للمواطنين ورجال الأمن والقطاعات في 16-6- 1424هـ الموافق 14-8-2003م والتي يؤكد فيها موقف المملكة من الإرهاب ويكشف فيها عن فخر الشعب السعودي برجال الأمن البواسل نلحظ أنه يفتتحها بقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}(الصافات: 173)، ونراه في الكلمة الضافية التي ألقاها -حفظه الله- بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك في 29-8-1426هـ الموافق 3- 10-2005م نراه يفتتحها بقوله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).
وواضحٌ في هذه النماذج براعة الاستشهاد القرآني في كلامه - حفظه الله- التي لم تقف فيها البلاغة في تناسبها مع الموضوع فحسب، بل وفي دقة اختيار المكان للآية المستشهد بها، وبالتالي مدى الأثر الذي تحدثه في نفوس المتلقين، وكما يتضح ذلك في الاستهلال بالشاهد القرآني فإننا نرى أنه يختم بعض كلماته - حفظ الله- كذلك بشاهد قرآني يكون ملخصاً للكلمة الملقاة ونهاية رائعة يبقى صداها في أذهان المتلقين.
ففي الكلمة السابقة آنفاً والتي أشاد بها برجال الأمن ونبه فيها على وجوب تعاون المواطنين معهم نراه - أطال الله عمره - يختتمها بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200)، وهو ختام بديع يُجمل ما أراد أن يكشف عنه في كلمته، وفي الكلمة التي ارتجلها في جامعة الملك فهد وأوردتها آنفاً نراه يختمها بقوله سبحانه وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التوبة: 105) وهو استشهاد يؤسس للاعتماد على النفس والإخلاص في العمل، وفي الكلمة التي ألقاها في افتتاح الدورة الثانية والعشرين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي في 15-10-1422هـ الموافق 29-12-2001م والتي تحدث فيها عن إصلاح البيت العربي والإسلامي وجعله قادراً على التحديات نراه يختتمها بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج: 40).
هذه بعض اللفتات البلاغية التي استطعت اقتناصها بعد تأمل وطول معايشة لكلمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله -أيده الله- وخطبه، وذلك من زاوية واحدة من الزوايا التي يمكن أن ينظر فيها المتأمل لكلامه، وهي زاوية (الاستشهادات القرآنية) وكيفية استثمارها وتوظيفها في خدمة موضوع النص وقوة إيصاله إلى المتلقي، وتبقى هناك كثير من الجوانب التي أرى أنها لا بد أنَّ تتعرض للتحليل والدراسة لعلها أن تكشف عن مزيد من اللمحات البيانية البديعة التي يتميز بها كلامه - حفظه الله-.
المحاضر بكلية اللغة العربية - قسم البلاغة والنقد
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية