Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/11/2009 G Issue 13571
الثلاثاء 07 ذو الحجة 1430   العدد  13571
رسالة السماء هدي للإنسان
د. عبدالمحسن بن عبدالله التويجري

 

لأمتي وجودٌ يدعم تواصل مراحله وتميزه معطيات مستمدة مِنْ روح العقيدة التي تحافظ على قيم سامية وفق منهاج رائد وحيوي وفعال، إنها بالعقيدة في تفاعل راسخة جذوره حقق ويحقق إشباعاً روحياً للفرد في حاله،

وللأمة في سمتها ومسعاها، فلا خَللا أو ميلاً يعتريها وهي كذلك، فالروحانيات لها شأنٌ وأثر على استقرار أمة ونمائها على طريق التفوق والنجاح إن شاء الله.

وحين يحكم التاريخ ويقارن حالاً بحال فإن أوروبا مثلاً حققت نمواً مادياً يؤكده إنجازٌ وتطور تنعكس نتائجه على كامل العلوم الإنسانية، ولكن الجانب الآخر والأهم يعتريه الفراغ النفسي لافتقار النفس إلى الإشباع الروحي الذي به يتميز الإنسان، فلا تخلو النفوس من إحباط وقلق كنتيجة لهذا الفراغ، ولتسلط الماديات على نفس الإنسان وعقله. إن الإشباع الروحي قوة للحياة، ووسيلة لكل سعي يتوجه به الإنسان أو يتفاعل به مع الحياة وآيات الكون.

إن الحياة بلا مقومات تعتمد عليها كمرجعية ونظام قد تتقدم مادياً ولكنها متى كانت خالية في النفس من الحس الروحي فلابد أن يحل الفراغ حيث المادة وسلطانها، ومن يخاطب نفساً من هذه النفس سيجد فراغاً عجزت الماديات أن تملأ شيئاً منه.

ونحن أتباع رسول الحق -صلى الله عليه وسلم- ومن وراء هدْيهِ ورشاد سبيله حققنا أمجاداً يؤكدها التاريخ المنصف، والتذكر لا خطأ فيه ما دام يستحضر الملامح دون تعصب أو عنصرية، فالماضي موقعه من النفس والعقل اعتزازٌ وإكبار به وبرجاله، إنه قصة كُتبت واكتملت تعاليمها فميزت الإنسان، وللزمن مسيرٌ يتطور وأمتي محسوبة عليه.

وبذلك ومن على مفترق الطرق بين الماضي واليوم يمكن فهم الحضارة الإنسانية من خلال المعطيات التي تشكل الوسط من رسالات السماء، وفي قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ما يُمهد لما ينشده الإنسان من وعي بالحضارة.

ومما يساعد على هذا الفهم أن الأساس أرضٌ وإنسانٌ ودين، وللدين أثرٌ وحافزٌ بما يحركه في الإنسان من قيم ومنهاج تستوعبه الحضارة الإنسانية، ومن ذلك العدل وهو من ثوابت الحياة المستقرة في دائرةٍ تتقدم وتحقق من نفسها لنفسها وجوداً أقوى، والمثال على ذلك ما أجمع عليه المؤرخون حول مقتل الفاروق - رضي الله عنه- وما بعده، ولكل مغزى بداية متميزة تسمو بها النهاية وفق حكم المنطق والمعقول لفهم الأذهان. إن الكثير يتذكر أن قاتل الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مجوسي واسمه أبو لؤلؤة أو فيروز حَسَبْ عدد من الروايات، حيث تمت جريمته فجر الأربعاء الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة 23 هجرية في المسجد النبوي الشريف، والخليفة عمر مستغرقٌ في صلاته ويؤم الناس في الصلاة فاجأه رجلٌ يحمل سكيناً ذات طرفين، كل طرفٍ أشد حدة وفاعلية فطعن الخليفة ثلاث طعنات في بطنه، وبعد أن أحسَّ المصلون بالحدث والقاتل يحاول أن يلوذ بالهرب إلا أن تجمع الناس حال دون هروبه وحتى يتحقق له الهروب فلقد طعن آخرين مات منهم منْ مات وأصيب منهم آخرون وحسبْ الرواية فقد طعن ثلاثة عشر مصلياً مات منهم سبعة على الفور من بينهم الجاني الذي قتل نفسه حين ضاقَ عليه الخناق.

وبدافعٍ من الحب والغيرة وبنفس متأثرة قام عبيدالله بن عمر وهو في حال من الغضب العارم فقتل الهرمزان وآخر وابنة ابن لؤلؤة، وبعد أن آلت الخلافة لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- بادر برد الحق لنصابه فرأى أن القاتل وقد قتل نفسه طوى ملف القضية المتعلقة بمقتل الخليفة عمر، إلا أن ما أقدم عليه عبيدالله بن عمر يُشكل قضية لها أبعادها التي توجب القصاص وحين المداولة وكان من بين الحضور عمرو بن العاص قال للخليفة عثمان -رضي الله عنه- حين أقدم عبيدالله على قتل من قتل لم يكن هناك خليفة وإماماً للمسلمين فما هو المبرر لمحاسبته؟.. لكن القضية الأهم مقتل أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أما الموضوع المرتبط بابنه عبيدالله كان نتيجة وبسبب مقتل والده الذي فاجأه فجاء اقتراح عمرو بن العاص كحلٍ مناسب، لكن الخليفة عثمان قال لعبيدالله: إن بينك وبين ما فعلت الشريعة والدين، فحاول عبيدالله بن عمر معالجة الأمر وذلك بدفع الدية للورثة وإن كان لا وجود لهم فدفعها لبيت مال المسلمين.

يتبين من ذلك الحرص التام على إقامة العدل في ظروف قُتل معها عظيم الدولة الإسلامية وفي طرف آخر من هذا الظرف نفسه فإن خليفة المسلمين عثمان بن عفان يُحاسب عبيدالله بن عمر بن الخطاب ومع هول الجريمة وردود الفعل لِما أصاب عبيدالله في نفسه فإن ذلك لم يشفع له في شيء أمام العدل وهذا كله يتم فور مقتل الفاروق -رضي الله عنه- ولم يؤجله الخليفة عثمان أو يغفل عنه وهذا يؤكد أن بناء الدولة ورقيها مشروط بتوفر أُسس تعتمد عليها الدولة الإسلامية التي بنى صرحها الخليفة عمر بن الخطاب في قوتها وسلطانها واستقرارها وما حققته.

كل ذلك اعتمد على التمسك بالحسِّ والفعل والفهم والوعي لرسالة السماء وما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن كان الخليفة عمر قوياً حازماً فإن معطيات التاريخ تؤكد أن هذه القوة لديه قويت بالإسلام وتعاليمه، وما العدل إلا قيمة من قيم الإسلام وجاءت هنا كمثال لفترة من فترات قيام الدولة الإسلامية، وحسبي أنها من التعاليم التي تؤدي إلى استقرار الدولة والأمة.. فإشباع النفوس بالحس الروحي المتميز بالالتزام والتقوى والصلاح له من المعطيات أمجاد تعود بمحتواها على الأمة والدولة التي تكونت لأول مرة من بعد وفاة رسول الحق -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فلا معنى لأي تقدم متى اعتمد جهده على ماديات بحتة، فالحس الروحي والالتزام به قوة فاعلة على النفس ونماء واستقرار للأمة، فمن خلال ما نفهم عن الإنسان وما مكانه وعقيدته نفهم الحضارة ونُحدد معالمها.

وليس في ذلك تجاوز فهو من المعطيات التي سجلها التاريخ وتواردت بها الروايات كما تحكم عليه معطيات العصر وما يعيشه من أنماط تداخلتْ بين حروب تُشعل حروباً أخرى وتحول المناخ بين الدول لصالح القوة دون الحق بل إن الحق عَبثَ به منْ عبث فصار الباطل حقاً والحق باطلاً والحال تلك لابد وأن تنتهي بمأساة إن صَعُب تحديدها.. فليس من الصعب أن نتذكر هروشيما والضحايا الكُثر وما هُدِمَ من حضارة وليدة حاول الإنسان صياغتها، والإنسان الآخر هو من أبادها وقضى عليها، فالروحانيات تحدّ من صلف الإنسان وجبروته بما يحكم الأهواء وينظّم المصالح، فلا يطغى أو يتسلّك إنسان على آخر أو أمة على أمة دون وجه حق، فالمساحة التي ضمن الدين الحنيف قيمها، وطرق ممارستها لأمن وأمان وسلام للإنسان. والله الموفق،،،




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد