Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/11/2009 G Issue 13571
الثلاثاء 07 ذو الحجة 1430   العدد  13571

الحبر الاخضر
(زمزم) ينبوع الأمل في صحراء اليأس
د. عثمان بن صالح العامر

 

تحتل القصة في القرآن الكريم مساحة واسعة، وهي ذات أهداف كثيرة منها ما كان خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والكثير جاء لأهداف أكثر شمولية وأعم، ومن بين هذه القصص ذات البعد الرمزي والدلالة الواسعة، قصة إبراهيم عليه السلام، وهي قصة تتكرر على مسامعنا هذه الأيام، بل نراها حيّة على أرض الواقع تتراقص كأطياف مازالت شاخصة في أماكنها التي أراد الله عز وجل أن تصير معالم لعبادة اسمها الحج (الكعبة المشرفة، الصفا والمروة، الجمرات، الأضاحي، وزمزم، عنوان هذا المقال)، وسر التوقف عند هذه المعجزة الربانية الخالدة، أنها جاءت عندما بلغ اليأس مبلغه بهذه الأم (هاجر) التي تركها زوجها إبراهيم عليه السلام هي وصغيرها إسماعيل، تركهما في وادي غير ذي زرع، تركها وهي تمسك بطرف إزاره وتقول تتركنا في هذا المكان الموحش!!، فلا يرد عليه السلام، تكرر عليه السؤال، ثم تقول له - وقد غلب على ظنها أنها باقية هي وصغيرها إسماعيل في هذه الصحراء المخيفة الخالية من أسباب الحياة والبقاء - آلله أمرك بذلك؟ فيقول: نعم، ويكون منها منتهى التسليم وقمة اليقين: إذاً فلن يضيعنا، وبالفعل تأتي ساعة الضيق والطفل بين الحياة والموت يصرخ من ألم الجوع والعطش، والأم المكلومة لا حول لها ولا قوة، ترتقي الصفا وتصل إلى قمة المروة لعلها تجد من ينقذ هذا الصغير الذي كان يحرك قدميه من شدة ما هو فيه، وما هي إلاّ لحظات وإذ بفرج الله يظهر من بين قدمي من لا حول له ولا قوة، ينبوع لماء له من الخصوصية والتفرُّد الشيء الكثير، فرج أعتقد أنه لم يرد على الخاطر ولم يكن أحد يتصوّره، وظلّ هذا الماء آية تتجدّد ومعها يأتي طيف هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام لكل زائر وحاج، وأشد منه وأكثر غرابة التضحية والفداء، ومن قبل إلقاء إبراهيم في النار، وفي كل هذه الأحداث درس مهم يتعلّق بنسبة التفاؤل في حياة كل منا، ودرجة الثقة بالله، كثير من الناس مرت بهم مواقف صعبة جداً وسبحان الله جاء فرج يقصر العقل البشري عن التنبؤ به والتفكير والتخطيط له، رسم معالم هذه الصورة غير المتوقعة في مجريات الأحداث محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في قصة رجل افتقد راحلته التي عليها متاعه (طعامه وشرابه) بحث عنها فلم يجدها، فعاد إلى مكانه في ظل تلك الشجرة ووضع جسده المنهك على ساعده ليموت، لاحظ ليموت، يعني وصل إلى شدة لا فرج متوقع لها، وفي هذه الأثناء عادت الراحلة وعليها أكله وشربه، قال العبد (اللهم أنت عبدي وأنا ربك .. أخطأ من شدة الفرح)، وما أروع قول الشافعي، الإمام الفذ والشاعر الحكيم:

ولرُبَّ نازلة يضيق لها الفتى

ذرعاً، وعند الله منها المخرجُ

ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها

فُرِجت، وكنت أظنها لا تُفرَجُ

لكن هذا الفرج له شروط ومستلزمات، لعل من أهمها الثقة الحقيقية بالله والرضى بقدره والقرب منه (وما تقرّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)، عموماً أعتقد أنّ الكثير منا بحاجة ماسة لمراجعة نسبة التفاؤل في حياته، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل، كما أنّ علينا ربط الأحداث بمسببها الحقيقي ومرجعها الأول (الله عز وجل) والثقة به سبحانه، (فهو أرحم بعباده من تلك الأم بولدها)، ولكن قد يقصر علمنا في إدراك ما خلف الحدث {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، كما أن الفرج قد يتأخر، والدعاء قد لا يستجاب لحكمة وسبب يعلمه الله عز وجل، أو لضعف وعلّة فينا نحن عباده الفقراء إليه، الضعفاء بين يديه ... وإلى لقاء،، والسلام.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد