لعل من أكثر الأشياء التي شُغلت بها الأمة ذلك الصراع الذي حدث بين العقل والنقل، وقد كان بالإمكان تجنُّبه لو تمت معالجة الأمور من خلال القراءات المتأنية، وإبعاد التأويلات السياسية لنصوص الدين الحنيف، لكن الصراعات السياسية الطويلة أدخلت العلماء في التفكير من خلال المأزق السياسي، وعملوا على تطويع إيمانهم وفهمهم للدين الحنيف من أجل فك اختناق الصراعات السياسية، بالرغم من أن الدين الإسلامي لم يبت حرفياً في كيفية اختيار الولاة، ولم يُفصل في الأمر، بل تركها لصراع الحياة الطبيعية، ولقانون تحكمه مواهب ومهارات الإنسان المكتسبة..
كذلك شقي بعض العلماء عندما أقحموا عقولهم المؤمنة في تبرير بعض النقل الذي يخالف العقل، وحاولوا قدر الإمكان التوفيق بينهما من خلال لوي أعناق النصوص، فما ذهب إليه المفكر المنشق عبد الله القصيمي في كتابه مشكلات الأحاديث النبوية أثناء فترة التزامه الديني، ومحاولته لتفسير بعض الأحاديث المنقولة وتأويلها ثم لوي فهمها، قاده في نهاية الأمر للفوضى العقلانية، وإلى التغريد بعيداً عن العقلانية الحقة، بالرغم من أنه في كتابه الشهير: (هذي هي الأغلال) أعلن انضمامه للعقلانية المؤمنة التي تدعو للتوفيق بين العقل والنقل في حالة تعارضهما، لكن استنفاره العقلاني غير الموفق قاده إلى الضفة الأخرى، وإلى الإبحار في مجاهل العقل غير المنتجة.. كان من أهم أزمات تلك المرحلة فوضوية العقل وعبثيته في البحث في الغيبيات..
مع تطور العلم أيقن الإنسان أن للعقل أغراضه التي يجب أن ينطلق فيها بلا حدود، وأن يتم استثماره لخدمة بيئة الإنسان، وهذا ما أوصل الغرب إلى ما هو فيه من تقدم ورقي.. ومنذ دخل الإنسان إلى عصر الصناعة ثم التكنولوجيا لم يعد يكترث كثيراً بتلك المغامرات العقلانية غير المحسوبة، ذلك لأنها تعمل خارج الطبيعة وبعيداً عن حاجة الإنسان.. فكان التعليم هو المعمل الذي تتم من خلاله صناعة العقل الحديث، لذلك كان الصراع على الكفاءات التعليمية، وعلى طرح المناهج التي تحرض على الإبداع الأكاديمي، وهو الطريق الذي تشترك فيه الإنسانية، وتتسابق من خلاله لاحتكار براءات الاختراع.. وبالفعل حدثت التحولات العلمية في التاريخ الحديث، وصار للعقل صروح أكاديمية ترعى إبداعاته وإنتاجه الغزير..
لا شك أن النقلة الأخيرة في التعليم الجامعي تصب في ذلك النهر الخالد، فالعقل المبدع أحياناً تتم صناعته من خلال برامج التعليم، ويأتي الاهتمام بالبحث العلمي هو الأمل الذي سيخرج هذا المجتمع من نمط استهلاكي إلى بيئة منتجة ومبدعة، على أن يتم العمل من خلال البنى التحتية، وأن تنخفض كثيراً الهالات الإعلامية التي ليس لها قيمة في تقييم نتائج البحث العلمي، ولذلك يجب أن يدرك الإعلام المحلي بمحدودية قدراته في قياس نجاح أو فشل البحث العلمي.
تدل التوجهات على أننا نمر في مخاض لصناعة العقل المنتج، لكن يجب أن ندرك جيداً أن التطبيل الإعلامي ومحاولة استغلال بعض القيادات الإدارية للإعلام الرسمي من أجل تحقيق مصالح فردية يجب أن تتوقف، إذ لا يمكن أن نتحدث عن تحقيق نتائج تفوق علمي بعد عام أو عامين من بدء التحولات الصحيحة، فالإنتاج العلمي الحقيقي يحتاج إلى عشرات السنين من أجل حدوث طفرة حقيقية، لأننا في الزمن الحاضر ما زلنا نمر الآن في مرحلة (الحبو) العلمي، والسبب يعود للبداية المتأخرة، وأن المعمل أو فريق البحث العلمي لا يزال محاصراً بجيوش من الإداريين، يتفوقون عدداً وعتاداً على فريق البحث العلمي، ويستولون على منافعه وميزانيته وكوادره، وفي نفس الوقت يبحثون عن أي خبر إعلامي له علاقة بالمخاض المحالي من أجل تعزيز مكاسبهم في المناصب الإدارية..
في نهاية هذه الكلمات نستطيع أن نقول: أصبح لدينا الرؤية من أجل صناعة العقل المبدع الذي يبحث في أسرار الأشياء الطبيعية في بيئته، لكن يظل العائق الأكبر هو الازدحام الإداري غير المتخصص حول العمل الذي يمنع إكمال التحول الأهم في أداء العقل المبدع..