الخميس الثالث من نوفمبر الذي اقترحته اليونسكو يوماً عالمياً للفلسفة يستدعي العديد من الأسئلة في ظل ثقافة عربية لا تحتفي به.. وكعضو في الحلقة الفلسفية بالنادي الأدبي تأتيني رسائل أصدقاء: بلا فلسفة بلا خرابيط.. صحيح أنكم فاضين.. الفلسفة كلام فارغ.. كأنكم ستحلون مشاكلنا بالتفلسف..
هذه التعليقات المستظرفة ليس من أناس بسطاء بل من مثقفين ومثقفات.. أحدهم قال إنه يخشى علينا الابتعاد عن الفكر التطبيقي الواقعي والانجراف مع إغواء الفلسفة وبرجها العاجي.. أما أطرف ما مرَّ علي هو صديق يخشى علي من الجنون لأن الفلسفة تلعب بالعقل! أذكر أني انفجرت ضاحكاً وأرسلت له ما قاله فولتير: (إننا جميعاً من نتاج الضعف، كلنا هشُّون ميالون للخطأ. لذا دعونا نسامح بعضنا بعضاً، ونتسامح مع جنون بعضنا البعض، وذلك هو المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة). قال صاحبي: أرأيت!؟ هذا ما أخشاه بدأت تنظِّر للجنون.. قلت: بل أنظِّر للتسامح!
ما الذي يدفع الإنسان للتفلسف؟ إنها الدهشة.. كما عبر رائد الفلاسفة أرسطو: (لقد أتاحت الدهشة للإنسان قديماً، كما حديثاً أن يتفلسف.. والذي يدهش ويسأل إنما يشعر بالجهل.. وحتى يتحاشى الإنسان الجهل بدأ يتفلسف)... كلنا منذ الطفولة نندهش، فنسأل الأسئلة الأولى: كيف ولماذا؟.. تبدأ دهشتنا بأشكال الأشياء وألوانها وحركتها.. ثم تتعقد إلى تركيبها.. ثم تتعقد أكثر إلى ما قبلها وما بعدها ومغزاها (الماورائيات).. ولا تنتهي الأسئلة، فكلما حصلنا على أجوبة شافية أتت أسئلة جديدة، فضلاً عن أن هناك أسئلة لم تتبدل لأن الأجوبة لم تكن مقنعة وظلت غامضة منذ الأسئلة الأولى.. ومن هنا يأتي المغزى العميق لمقولة كامو: (لا بد للماذا أن تنهض في يوم ما)!.
إذن، كلنا نتفلسف، حتى أبسط الناس بما فيهم الأمي. والفرق الأساسي بين تفلسف العامي وتفلسف المحترف هو على حد تعبير هنتر ميد: فارق في المسافة التي يقطعانها.. فالفيلسوف يسلك عادة طريقاً أقصر ويرى تفاصيل أكثر وأعمق أو أكثر أهمية.. ومع ذلك فإن الطريق العام الذي يسلكه كل منهما يظل واحدا!
نعم لكل إنسان فلسفته.. ويمكن القول إن أغلب الأفكار الخاصة الغريبة أو تلك الحماقات الصغيرة التي تطرأ على ذهن كل إنسان في موضوع الحياة والكون، هي ليست فريدة بل تنتمي لفئة فكرية يستطيع المحترف بالفلسفة تصنيفها وتحديد مذهبها الفلسفي.. فالفيلسوف - حسب جاسبرز - ليس نموذجاً متشكلاً، بإمكان الإنسان أن يأخذ صورته ليؤول إليه: إن كينونة الفيلسوف هي إرادته أن يصير ذاته، وأن يصنع لنفسه في مساحة التفلسف مكاناً وإمكانية وتعبيرا.
وإذا كان لكل إنسان فلسفته، وكل إنسان هو فيلسوف بشكل ما، فما هو الفرق - غير تلك المسافة المجازية - بين الفلسفة الشخصية التي يمارسها الناس العاديون وبين الفلسفة الاحترافية التي يمارسها المفكرون؟ يطرح أستاذ الفلسفة هنتر ميد ثلاثة فروق. أولها المصطلح الفني واللغة التي يصوغها المتمرس بالفلسفة بطريقة أكثر تجريداً وعمقاً من اللغة العادية. أما الثاني فهو أن الفلسفة الشعبية توجد غالباً بطريقة ضمنية غير واضحة، بينما الفلسفة الاحترافية تكون صريحة ظاهرة، فالأولى فلسفة في طور الجنين والأخرى فلسفة بها إمكانيات التحول إلى عضو بالغ. والفارق الثالث هو أن معظم المذاهب الفلسفية تنطوي على قدر من التنظيم والاتساق والوحدة المنطقية تنظم الأفكار بطريقة منهجية، بينما التفكير العادي لأغلب الناس لا يصل إلى هذا الضبط المنهجي.
حسناً، ما هي الفلسفة وما هي مواضيعها ووظائفها؟ الفلسفة ليست شيئاً واحدا فكل مذهب فلسفي لديه تعريف وتوصيف للفلسفة ووظائفها والمسائل التي تعالجها، تختلف تماما عن المذاهب الأخرى، وربما يناقضها، لأن الفلسفة نشاط أكثر من كونها موضوعاً أو بناء معرفة أو تخصصاً علميا.. فحتى الطرح المنهجي المضاد للفلسفة هو فلسفة، ولعل أشهر مثال هو طرح الإمام الغزالي في (تهافت الفلاسفة) حيث مارس التفلسف في أعلى مستوياته الاحترافية لينقض الفلسفة!
لذا يعتقد البعض أنه لا يوجد شيء اسمه فلسفة بل نشاط اسمه تفلسف، وهو النشاط العقلي الواعي الذي يحاول كشف طبيعة الفكر والواقع والتجربة الإنسانية.. فتكون المحصلة النهائية لطرح الغزالي هي ضد الثقة في قدرة العقل على كشوفه تلك وليس ضد التفلسف فهو يطرح تفلسفاً صوفيا.. ومن ثم توجد فلسفات لها طرق متعددة للنظر إلى العالم، قد تتناقض، وبالتالي من الممتنع أن ننظر إلى الفلسفة على أنها بناء موحد للمعرفة.
فالفلسفة ليست مثل المعارف والعلوم الأخرى تبدأ من مسلمات خاصة ومقدمات متفق عليها بكل فرع من فروعها، كالكيمياء (تركيب المادة) والفيزياء (حركة المادة)، فلا حاجة للبحث ما قبل هذه المقدمات، بل هي (أي الفلسفة) يمكن أن تبدأ من فراغ الفرضية الأوسع مدى.. حيث الإنسان يخلق بنفسه المقدمة والمنهج والموضوع، ومن ثم يصنع لنفسه الوضوح عن ذاته وعن عالمه..
فأفلاطون مثلا يرى أن المسائل الفلسفية هي: الحق، الخير، الجمال، وفيها تنعكس كيفيات الوجود كله. بينما فيلسوف التنوير كانط يرى أن المسائل الفلسفية هي: الميتافيزيقا (ماذا أستطيع أن أعرف؟)، الأخلاق (ماذا يجب أن أفعل؟)، الدين (بماذا آمل؟)، الانثروبولوجيا (ما هو الإنسان؟). وعموماً، تتفرع مسائل الفلسفة إلى: الأخلاق، الجمال، الميتافيزيقا (الماورائيات)، المنطق، نظرية المعرفة، فكر اللغة.. إضافة إلى فلسفات داخل الاختصاصات الرديفة كالتاريخ والطبيعة والقانون والاجتماع والسياسة..
إذن النشاط الفلسفي له العديد من المهمات، لكن يبرز أهمها اثنتان. الأولى هي التحليل والنقد.. حيث يقوم الفيلسوف بتحليل أدواتنا العقلية، ويدرس طبيعة الفكر، وقوانين المنطق، والعلاقات بين أفكارنا والواقع، وطبيعة المعرفة، ومدى صلاحية المناهج التي نستخدمها للوصول إلى المعرفة.. والثانية هي التركيب، أي إيجاد مركب لكل المعارف، ولتجربة الإنسان الكلية. وهنا يبحث الفيلسوف عن رأي أشمل بشأن طبيعة الواقع، ومعنى الحياة، وأصل الوعي، وغير ذلك من الأسئلة الحدية القصوى التي تهدف إلى تكوين نظرة شاملة ومتسقة إلى العالم..
أختم هذا التفلسف بالمرور على القصة الرمزية لكهف أفلاطون، إذ يُعبر الكهف عن العالم المرئي لحياتنا اليومية، حيث الأسرى المقيدون في الكهف (الذين يمثلون الناس العاديين) يعيشون في عالم من الحدس والأوهام، بينما الأسير الذي فك قيده ليتجول داخل الكهف، يحصل على منظر أكثر دقة ممكنة للواقع. وعندما يخرج من الكهف نحو العالم المضيء يتمثل له (عالم الكينونة)، عالم جلاء الحقيقة. وفي نهاية قصته يضع أفلاطون شيئا أكبر من الرمز، وهو دفاعه عن معلمه سقراط.. فالأسير المتحرر يعود للكهف ليحرر مفاهيم رفاقه المقيدين. ولكن عند وصفه للعالم المضيء، سيظنه الأسرى مخبولاً، سيعتقدون أن رحلته أفسدته، لا يريدون أن يستمعوا إليه بل وربما يحاولون قتله إذا أصّر على رأيه، مثلما نُفذ حكم الإعدام على أبو الفلاسفة سقراط!
alhebib@yahoo.com