أتحدثُ عنْه، وقد كان حافظاً وراوية في مجالسه لكمٍ كبير من الأخبار والأحداث التي جرتْ إبَّان صباه وشبابه، يروي القصص والأخبار كأنك حاضرٌ مع أصحابها مشاركاً لهم، بأسلوب رائع يشدُّ الأنظار والأسماع، تميَّز بصدق اللهجة والنظرة الثاقبة، كنتُ أحبُّ مجالسته لما فيها من فوائد تتعطر بها الأسماع حيثُ إنَّه شاهد عصرٍ لم أشهده ولم أعاصره، فجالستُه كثيراً فأفدتُ منه، فهو يُوجِّه ويُرشدُ ويشيرُ بما فيه خير، حديثُه يبهر السامع لحسن أسلوبه ودقةِ تصويره، يعرفُ الرجال ويُنزلهم منازلهم فهو: أحمد بن عبدالله بن محمد بن منصور بن محمد المنصور.
ولد في مدينة جلاجل بسدير عام 1338هـ، ونشأ يتيماً إذ توفي والده وهو صغير في اليوم العاشر من رمضان لعام أربعة وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة, فرحل مع عمِّه أحمد إلى الكويت بعد وفاة والده، ووالدته لولوه بنت عبدالله بن ناصر بن ضيف الله بن شهيل من آل سويّد وقد كان ذو زهدٍ وعبادةٍ وكرمٍ وأخلاقٍ فاضلةٍ، صادق اللهجة، متوسط الطول حنطيّ اللون.
وله زوجتان، هما: ابنة عمي الجوهرة بنت الشيخ مشاري بن عبدالله بن مشاري ابن علي والتي أمها خالتي لطيفة بنت علي بن مشاري آل ابن علي وقد زوجه إياها جدها لأمها وعم والدها الجد الشيخ علي بن مشاري وقد ماتتْ الجوهرة لتعسُّر ولادة بكرها أثناء سفرهم منْ قرية العليا إلى مستشفى الكويت وأسف على فراقها أسفاً عظيماً لمحبته لها، ثم تزوَّج جدتي لأمي: حصة بنت الأمير محمد بن إبراهيم الماضي - أمير روضة سدير في وقته- وذلك بعد وفاة زوجها جدي لأمي الشيخ علي بن مشاري ابن علي ولها ابنتان منه صغيرتا السنٍّ ،وهما والدتي دليل، وخالتي هيله، فأحسن تربيتهما أحسن الله إليه وكان أباً حانياً عليهما مما خفَّف عنهما؛ فقد والدهما ولا تزالان تذكرانه بخيرٍ وتدعوان له، وقد أنجبت له جدتي لأمي حصة ابنين وهما خالي عبدالله محمد و خالتي نورة والولو، وقد توفاها الله في يوم التاسع والعشرين من صفر لعام اثنين وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية.
لازم الراوية أحمد المنصور صديقه الخاص وهو جدي لأمي الشيخ علي بن مشاري ابن علي(1) الذي كان على اتصال وثيق بقضاة قرية العليا أمثال الشيخ عبدالعزيز بن سودا،والشيخ إبراهيم الهويش والشيخ سعد ابن مبارك وغيره فأفاد من مجالستهم في الدروس العلمية التي كانت تقام حينها، مما أوجد لديه معرفة علمية شرعية لا بأس بها، كما كانت تربطه علاقة قوية بالشيخ سلمان بن منديل وأبنائه، و له أيضاً معرفة بأنسابِ بعض الأسر...
انتقاله من جلاجل إلى الجبيل ثم الكويت ثم قرية العليا وأخيراً إلى الرياض:
قبل أنْ أتحدَّث عنْ تنقلُّه بين بعض البلدان ينقدحُ سؤال في الذهن وهو ما الداعي إلى انتقال بعض الأسر من سدير أو غيرها إلى بلدان أخرى؟ فأقول إنَّ من طبيعة البشر طلب الرزق ولو اضطرهم إلى الرحيل منْ بلدانهم إلى بلدان أخرى وكما قيل في المثل المتداول عند أهل نجد (ديرتك التي ترزق فيها)، أمَّا عنْ قرية العليا فقد كانتْ في وقتٍ مضى تعتبرُ مركزاً جمركيَّاً للبضائع الصادرة والواردة للمملكة من الجهة الشرقيَّة الشماليَّة وبالذات من الكويت مما جعلها عامرة بالسكان الذين توافدوا عليها طلباً للرزق، فنمتْ الحركة التجارية فيها وما كُتبَ لها أنْ تستمر على ذلك لأنَّ الجمرك وبعض الدوائر الحكوميَّة انتقل إلى غيرها فضعفَ النشاط التجاري فيها علاوة على عدم مواكبة قرية العليا للمدن المجاورة لها آنذاك خصوصاً تلك التي اكتُشف فيها البترول أو أصبحتْ مواقعها أفضل لكونها حدوديَّة فعادتْ كثيرٌ من الأسر إلى بلدانهم.
أعودُ إلى مترجمنا فقد كان سبب رحيله إلى قرية العليا طلباً للرزق، ومكثَ عند صديقه عبد الرحمن بن جدعان وذلك بعد رحيل عمه أحمد إلى الرياض إذ تربطهما قرابة ثم فتح محلاً تجاريَّاً خاصاً به يبيع فيه الأرزاق (المواد الغذائية - الأرز - القهوة- الهيل -السكر- الدبس وغيرها)، وكان منزله فيها قبل وبعد زواجه (منصا)(2) لأهل سدير وبابُه مفتوحٌ لهم فيقوم بحقِّ ضيافتهم أثناء مرورهم لقرية العليا في أسفارهم للكويت والزبير والعراق ومكث في قرية العليا إلى أنْ انتقل إلى الرياض عام 1385ه.
وقد عمل مؤذناً لمسجد آل منديل في قرية العليا الذي كان إمامه الجد الشيخ علي بن مشاري وخلفُه الشيخ ناصر العيفان- رحمهما الله- وكذلك زاول الأعمال التجارية كما ذكرتُ آنفاً وأيضاً عمل بوزارة الصحة إماماً لمسجد مستشفى الملك سعود (الشميسي).
وكان يروي في مجالسه القصص والأحداث التي وقعت في مجتمعه إذ يمتلك ذاكرةً قويةً وقَّادة ونظراً صائباً مما فاق به كثيراً منْ أقرانه، وقد سجَّل له أحد المهتمين عدة أشرطه صوتية، وأذكرُ ما حدثني به المترجم له لحالتهم في أسفارهم ذلك الوقت ليتصور القارئ الكريم ما كان عليه آباؤنا منْ شظفٍ في العيش وقلَّة ذات اليد ليدركوا ما نحن فيه منْ نعمٍ عظيمةٍ فنشكر الله عليها طلباً للمزيد منْ أفضاله سبحانه قال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) حدثني -رحمه الله -قال: كُنَّا في أسفارنا نمتطي الركائب أو نمشي على أقدامنا وإذا صادف سفرنا فصل الربيع فإنَّا نفرح بما ينبت من الأعشاب البرية التي تصلح للأكل لأنا غالباً لا نجد ما يسدُّ جوعنا خصوصاً في السفر، نأكلها حتى تكاد تشقق أشداقنا لقلة ذات اليد.
وتربطه علاقات مودة وتواصل بين أقاربه وأصهاره ومعارفه وجيرانه، لا يتوانى في السعي لما فيه نفع غيره، يحرص على إصلاح ذات البين، وهو محلُّ ثقة أقاربه وأصدقائه ومعارفه في قرية العليا إذ يطلبون منه أن يتولى ما تحتاجه بيوتهم أثناء سفرهم، كما كان لا يمانع من رقية إذا طلبت منه بلا مقابل يحتسب الأجر من الله تعالى، ولم يكن متوسعا فيها، وكان ممن يرى عدم أخذ شي مقابل الرقية خصوصاً مع التوسع الحاصل فيها من قبل البعض.
أُصيب بمرض تضخم القلب مما كان له أثره على الرئة، وفي اليوم الذي توفاه الله فيه أصيب بفشل كلوي حاد. ثم توفي في اليوم الثاني من محرم عام خمسة وعشرين وأربع مئة وألف للهجرة, في مدينة الرياض وصلي عليه بعد صلاة العصر في جامع الراجحي ودفن في مقبرة النسيم وانزله في القبر كاتب هذه الترجمة، وابن العم خالد بن محمد بن سليمان المشاري.
وأشكرُ منْ زودني بمعلومات عن مترجمنا وأخصُّ بالذكر منهم: ابنُ المترجم له خالي الأستاذ عبدالله بن أحمد المنصور.
وللتواصل لإثراء هذه الترجمة على (ص.ب 380488 الرياض 11345).
الهوامش:
(1) الشيخ علي بن مشاري بن علي -رحمه الله- تولى الإمامة في قرية العليا في مسجد آل منديل، وكان مجالساً لأهل العلم فيها، وذا مقام ومكانة رفيعة لديهم فأفاد من قضاة قرية العليا، وقبل ذلك أفاد من أخيه الأكبر الشيخ عبدالله بن مشاري، إمام وخطيب جامع بلدة الداخلة في زمنه، وله اطلاع واسع في الكتب الشرعية، وقد توفاه الله في حادث سيارة وهو في طريقه لزيارة أخيه الشاعر سليمان بن مشاريع (راعي الداخلة) وذلك في البويب قبل ستين سنة تقريباً ودفن في رماح - رحم الله الجميع.
(2) منصا أي (مكانا يفد إليه من أراده).
عمر بن عبدالله بن مشاري المشاري / خطيب جامع بلدة الداخلة في سدير
المشرف على الفترة المسائية بمكتبة الرياض السعودية
Omar_22@maktoob.com