مما لا شك فيه أن هناك إرادة عليا تدفع نحو التطور في مجال القضاء، فالخطوات تتسارع من أجل تجاوز سنوات الجمود، والعمل لمواكبة العالم الحديث، لكن ذلك لن يحدث بدون عثرات، فالقضاء بكوادره البشرية الحالية وبمنهجه الذي يمتد إلى قرون عديدة يحتاج إلى تطوير ليصبح أكثر إنسانية وأكثر ملائمة لوعي العصر الحديث، وكذلك أقرب إلى حل قضايا الإنسان المعاصر بدون تصنيفه من خلال خلفيته الفؤوية أو الأيديولوجية أو الثقافية، وأن يحتمل الفروقات الموجودة بين فئات وطوائف المجتمع، ويأتي على رأس هذه المطالب تقنين الأحكام القضائية الذي أصبح حاجة قصوى في ظل التطورات المتسارعة في مختلف المجالات.
أكد الدكتور محمد السعيدي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى في برنامج تلفزيوني حاجة المجتمع لتقنين أحكام القضاء مشيراً إلى أنه في كثير من الأحيان تتناقض أحكام القضاة في حالات متماثلة نظراً للاجتهاد المطلق الذي تتيحه آلية القضاء في المملكة، بينما يروى آخرون أن مشكلات القضاء لن تنتهي بالتقنين، ويجب أن تبقى في مساحات محددة من الفقه الإسلامي، وتكمن المشكلة في إلزام القاضي الأخذ بمواد التقنين، وليكن للقاضي مساحة من التصرف في أن يأخذ بها أو يدعها حسب رؤيته واجتهاده وهو الأمر الذي جرى عليه عرف القضاء في التاريخ الإسلامي.
وأرى أن مساحات التصرف المرنة جداً عند بعض القضاء كان لها أيضا أثار سلبية، فقد فتحت الباب لتفاوت الأحكام ليس من خلال باب الرحمة الإنسانية، ولكن أحياناً تدخل فيها مقومات النخوة والفزعة والمصالح الاجتماعية، لذلك من المهم أن يتم تقليص تلك المساحات التي يتصرف من خلالها القاضي، وأن تتم معالجتها من خلال فصول مقننة، وأن لا يُترك الباب مفتوحاً للقاضي أن يحكم حسب رؤيته الشخصية، فالفقه المكتوب حالياً يزخر بتفاوت واختلاف متباين، وقد كان هذا التفاوت محموداً في العصور الماضي نظراً لاختلاف الأحوال الاجتماعية..، لكن الحال تختلف تماماً عن تلك الأزمنة..!
كذلك أن يستوعب تقنين القضاء الانفتاح وخروج المجتمع من المساحات الضيقة في التفكير إلى قبول ما كان يُعد في السابق من المحظورات، وأن يصاحب ذلك تطوير في كوادر القضاء، ولن تجدي محاولة عزل القضاء الحالي عن البت في قضايا الاقتصاد والإعلام وغيرها، ولابد من اتساع دائرة القضاء ليكون المرجعية العليا لمختلف القضايا في المجتمع..
سيظل السؤال الأهم عن كيفية تطوير الكوادر القضائية وهل من الممكن أن يخرج تأهيلها من مرجعية المذهبية الفقهية وغيرها إلى البحث عن الإنسان المؤهل لنيل ثقة المجتمع للعمل في ساحات المحاكم، وفي حالة تقنين القضاء سيكون من السهل إخراج كوادره من تلك المرجعية، وأن يتم تدريس القضاء من خلال تقنينه المعاصر، وليس من خلال نمط فقهي لم يعد يواكب العصر الحديث..، لكن الأزمة الأكثر صعوبة ستكون في تسارع تحولات المجتمع نحو المادية والحرية وحقوق الإنسان وأدوار المرأة الجديدة، وهو ما سيفرض الاجتهاد خارج المرجعيات الفقهية الحرفية مع مراعاة المقاصد الإسلامية النبيلة..
دائما ما نردد عبارة الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولا يختلف المسلمون في ذلك، لكن يختلفون في كيفية صهر هذه الحقيقة إلى أبجديات تتوافق مع الحياة المعاصرة، فالمذاهب الأربعة تمت كتابتها وتقرير أحكامها على عصر ماضي وعلى أحوال اجتماعية مختلفة، فعلى سبيل المثال لا يوجد في الوقت الحاضر رق وملكية الإنسان للإنسان، ولا يصح استرقاق الأسرى وإدخالهم إلى ملكية اليمين، فحقوق الإنسان التي تطورت خلال القرن الحالي أضحى لها سلطتها القوية، يساندها وعي إعلامي واجتماعي حاضر، وهو ما يستدعي الاجتهاد في قوانين تتناسب مع مقاصد الإسلام وفي نفس الوقت تعزز مكانة الإنسان وحقوقه في حياة كريمة..كذلك لم يعد مقبولاً اجتماعياً أن يتم الفصل بين الزوجين بسبب عدم التكافؤ الأسري وغيرها..
كذلك لا يخفي على متابع مدى أهمية إصلاح القضاء ورفع قدراته، فالدول المعاصرة تحتاج إلى قضاء مستقل ونزيه، قادر على تحقيق العدالة برغم من تباين مستويات القوة والجاه، فالمقاييس الحالية لازدهار الحضارات مرهونة بقوة القضاء واستقلاله، وبقدرته على إعادة الحقوق لأصحابها، وتأتي تلك الأهمية لأننا نعيش في عصر مختلف، وأيا من يعتقد غير ذلك فهو مخطئ، فالإنسان دخل تيار صاعد بسرعة الصاروخ إلى حيث تكامل الوعي الإنساني، فالوسائل الحالية في الاتصالات وتعدد الثقافات وتقاربها يجعل من الإنسان في الوقت الحاضر أكثر تأثيراً من أي وقت مضى.