Al Jazirah NewsPaper Saturday  21/11/2009 G Issue 13568
السبت 04 ذو الحجة 1430   العدد  13568
الآن اكتشفتُ نفسي (2-3)
(مع استطرادٍ عن السريالية والتسبيح)
بقلم: أبوعبد الرحمن بن عقيل الظاهري

 

قال أبو عبدالرحمن: مع المقاومة العنيفة التي أسلفتها للوسواس الخناس فإنه لا ينقطع عني عدو الله كأنه رجل عن يساري يحاورني.. تارة يشككني في ديني؛ فإذا قلت في سجودي الدعاء المأثور الصحيح: (اللهم إني أسألك رضاك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)؛ قال لي: (أما تخاف الله تستعيذ من ربك؟!)؛ فأمازح عدو الله، وأقول: (شكراً يا عدو الله على هذه النصيحة الإيمانية)، ثم أعيد هذا الدعاء أكثر من مرة بتصميم، وأُعْقِب ذلك قولي:

(سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رب الملائكة والروح.. اللهم لك الحمد ولك الشكر يا ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)؛ فيخنس عدو الله، ونفسي ترتاح لهذا الدعاء؛ لأن الله سبحانه كذلك سبوح قدوس مهما كفر به الجاحدون، ثم أُتبعه بتسبيح لساني؛ فأقول: (سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح.. سبحان الله وبحمده.. سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله).. وتارة يدخل عليَّ العجب والرياء؛ فيوسوس في صدري: (ليت ذلك الوجيه أو الزعيم يشهد عبادتك؛ فَيَعْظُمُ جاهك عنده!!)، أو (لقد أديت عمل المحسنين!!)؛ فينطلق لساني بسبحان ربي الغني الحميد له الفضل والمنة إذ هداني، وله الحمد في الأولى والآخرة، وأي غَناء(1) لي عند ذلك المخلوق وفقره إلى ربي كفقري؟.. ومرة أُشير بأصبعي إلى قلبي كناية عن علم ربي بما في قلبي، ومرة أحرك رأسي تسخُّطاً من هذه الوسوسة، وكل ذلك النطق والحركات تأتي تلقائياً من غير قصد.. وتارة يُلَبِّس عليَّ عدد الركعات؛ فصرت إذا ختمت سجوداً بمثل (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ختمت السجود الآخر بمثل (اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك)؛ فأعلم عدد الركعات بسيما الدعاء في آخر كل سجدة.. وفي الركعتين الأوليين أعرفهما بطولهما وختامهما، فأختم الأولى بمثل (سبحان ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة)، وأختم الثانية بمثل (اللهم إني لك ركعت، ولك أسلمت.. إلخ)، وهكذا وهكذا.. وتارة تزدحم في قلبي الأدعية التي أريدها في السجود أو في الجلوس للتشهد الأخير فأنساها، فأبقى صامتاً لا أستحضر شيئاً؛ فصرت أَكيدُ عَدُوَّ الله بالأناة والتمهل، ولا يكون ببالي أن أستكثر من الأدعية، فينثال عليَّ ما أريده من الدعاء والتقديس بلمة مَلَك كريم.. وكنت ألتذُّ بجهاد عدو الله، وأراه من لُبِّ العبادة؛ فصار يضعف كيده لي على المدى؛ فهذه تجربة نفسية أخرى هي برهان على صدق خبر الله سبحانه عن وسواس خناس ليس في قبضة حسنا.. وعن ممازحتي حتى لعدوِّ الله أسجِّل ظاهرة في حياتي، وهي أن الله فطرني على حبِّ الدعابة والنكتة ولو على نفسي، وأجد بعد ذلك سروراً ونشاطاً، ولقد كنتُ أَرْقي قريباً لي شديداً قوياً يستطيع أن يقبض عليَّ ويهشِّم أضلاعي بقبضة يده الشمال، وكان ينفر من القراءة، فأضمُّه إليَّ من كتفه الأيسر، وأزجره.. والله سبحانه سخَّره لي كما سخر الإبل، وكنت أحاور نفسي: (كيف أقاوم هذا الجند من جنود الله)، وقبل أن أنفث عليه بآية توقَّفتُ عندها إذْ أنا أنفث سهواً بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (13) سورة الزخرف، وليست هذه الآية مما يُرْقى به، ولكنه تداعي الخواطر.. وإذا كنتُ في وِردي أسبِّح أو أتلو قرآنا لازمني الخناس الوسواس؛ ليشوش عليَّ في ضبط كلمات الورد وأعداده، وينقل فكري عن الاتعاظ بمعاني التلاوة؛ فأنفث عن شمالي وأتعوذ من الشيطان الرجيم، فيخنس ثم يعود بعد قليل، ومن ثم تأتي الممازحة؛ فأقول هامساً: (كأنك استحليت البصاق!!.. خذ هذه، وعندي لك كنوز من التفلات.. فيخنس مدة أكثر ثم يعود، فأهمس له: خذ ثالثة.. وهكذا دأبي معه حتى يخنس مدة طويلة.. وكنت أحس بعيان كالشمس لذة العبادة وطعمها، وعكس ذلك أحس بوحشة أشعر فيها بإعراض الله عني؛ لذنب ارتكبته، أو لكلمة لم ألق لها بالاً، أو لمجاملة مخلوق في أمر ديني، أو لسمرٍ مع بعض الأحباب ارتفعت فيه الكلفة؛ فكثر اللغط واللمم؛ فأول ما أحسه غلبة النوم عن فريضة أو نافلة، ثم قيامي لإحداهما بتثاقل وكسل، ثم أداؤها بغفلة وعجلة؛ فلا أحس للعبادة والتلاوة طعماً ولا خشية؛ فأعلم أن ذلك إنذار بالطرد والحرمان؛ فألجأ إلى الدعاء، وأستحيي من ربي في عدد من الفرائض أو النوافل فلا أدعوه في حوائج دنياي؛ وألح على الاستغفار والتسبيح والتهليل والاستعاذة والبراءة من الحول والقوة إلا بالله؛ فيعود إليَّ إيماني، ويذهب خجلي، وربما أغمضت عيني في السجود، وذلك مكروه من فعل اليهود ولكنه عمل غير إرادي، وربما قبضت على أصابعي أو اتكأت بها على الأرض أو الصدر بشدة كما يعتري من يخجل، وما هي إلا بضع صلوات فأجد حلاوة العبادة، وينطلق لساني بما أرجوه من ربي في دنياي.. ومرة تأخر نومي، وقلقتُ، فألحفت في الاستغفار بلساني مرة وبقلبي مرة حتى بلغ استغفاري فيما أظن أكثر من ألف مرة، وأكثرت من التهليل والتسبيح والتحميد، وألظظت ب(يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام) والحديث ضعيف، ولكنه نافع بالتجربة؛ فأخذني النوم سُويعات قليلة، ثم قمت مبكراً، ودعوت دعاء اليقظة، ثم أحسنت الوضوء، ثم وقفت على باب يطل على مزيرعة صغيرة في البيت فقرأت آخر سورة آل عمران ابتداءً من: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...}؛ فما مر بحياتي قط على الرغم من إرهاقي وقلة نومي أبرك من ذلك اليوم؛ فقد قضيته في نشاط عظيم على ما شاء الله من شؤوني، وأنجزت أعمالاً كثيرة دينية ودنيوية وما نمت إلا بعد العشاء الآخر.. وأشفقت في هذه السنوات من أن أكون فررت من طرب إلى طرب؛ فكنت يومياً لا آنس إلا بتلاوة الحفلات التي يعتريها شيء من المحدثات، فأستمع إلى تلاوة الحفلات لعبدالباسط والطبلاوي والشيخ محمد رفعت رحمهم الله، وكان التذاذي بجمال الصوت، فدبلجتُ بعض الأشرطة، وأخليتها من صفير السِّميعة، وكان أحبهم إليَّ الشيخ محمد رفعت رحمه الله، وكل تلاوته حفلات، ولم يُحفظ تسجيله للقرآن كاملاً، وكان صوته جميلاً، ويزداد جماله باتكائه على مخارج الحروف، وطولِ نَفَسَه، وما في نغماته من تحزين، وإسراف في المدود حتى شابها شيء من المقامات العراقية(2)، وذلك في أدائه الأذان أظهر، وتلذذت بكلام الله، ولكن التذاذي بالصوت الجميل أكثر؛ فقلت في نفسي: (هذا فرار من طرب إلى طرب)، ومع هذا كنت أستمع إليه كلما صدئت، وأُقاطعه باستماع إذاعة القرآن حتى يأتي ما لا يعجبني فأخفض الصوت؛ فوجدت تأثري بالتلاوة أعظم؛ لأنه لا يبث في الإذاعة إلا أداء شرعي للتلاوة الكريمة.. ثم كانت لي تجارب مع بعض المشايخ الفضلاء كشروح سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله للمنتقى للجد ابن تيمية رحمه الله، وكتعليقات الشيخ صالح الفوزان على كتاب للإمام ابن تيمية(3) رحمه الله تعالى.. وكانا يُلقيان كلامهما على كبر، وتكاد تخرج الحروف من مخرج واحد كما أفعل أنا لما أدركني الكِبَر؛ فأدركني خشوعان وخشيتان معاً:

أولهما: التأثر بالنصوص نفسها، وليست غريبة عليَّ، وطالما قرأتها وقرأت شروحها، ولكن التفاعل مع معانيها لم يحصل في عمري بمثل تلك اللحظات.

وثانيها: التأثر بشخصية الملقين أنفسهم: كيف فنيت أعمارهم في طاعة الله عملاً وعلماً نافعاً، وكيف قضيت عمري رادحاً(4) فيما تعظم الندامة عليه إن لم يتداركني ربي برحمته وعفوه؟؟!.. وكنت أدعو ربي أن يخلف عليَّ ما مضى من عمري بثمالة مُنيبة صادقة؛ فإذا اطمأننت وحصلت لي سكينة عاودني الندم، وقلت: أي شيء بقي مني أعوِّض عنه ما فات: أفي بقية عمر صلاتي في بيتي أكثر من صلاتي مع المسلمين جماعة؛ لما أعانيه من آثار المليِّنات بسبب الإمساك الشديد والدزنطاريا المزمنة المتكيِّسة، فإذا تركتها لم أصبر على الجوع؟!، أو في بقية عمر نومي فيه أكثر من يقظتي، أو في بقية عمر لا أنشط فيه للعمل الصالح الجاد، واستيعاب العلم النافع بسرعة كما كنت في شبابي؟!.. فإذا خشيتُ اليأس والقنوط تذكرتُ أن الله لم يحرمني الخير في سنوات المنعطف في حياتي، ولا في أيام نشأتي: إما لشيء أنعم الله عليَّ به بدءاً: إما جزاء منه سبحانه لي على عملٍ قاصر، وهو كلُّه نعمة من الله عليَّ ابتداء فضلا منه سبحانه ومنَّة بلا حول مني ولا قوة، وهو العمل الصالح الذي هو جزاء من الله سبحانه عائد إلى العمل الصالح الذي كان منه سبحانه ابتداء، فهو ثمرة له، فهو نعمة من الله مبتدأه.. وإما ابتداء منه سبحانه قبل أن يكون لي عمل؛ وذلك هو الإيمان بالله على صفات الكمال المطلق، وإيمان بملائكته عليهم السلام، وبكتبه الكريمة، ورسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.. وهذا هو النعمة الكبرى.. وهذا بحمد الله هو إيمان لم يتزحزح بفضل الله ومنته، والله المستعصم فيما بقي من عمري مع تقصير في العمل، وظُلمي لنفسي، وكثيراً ما توسلتُ إلى ربي بهذه النعمة التي أنعم بها عليَّ.. ومنها ملازمتي مع أبي عمر -رحمه الله- مسجد الحسيني بشقراء قبل المنعطفات، وتلذُّذي بتلاوة مشايخ من العوام في صلاة التراويح والقيام والصلوات الجهرية كالمشايخ شقران وسليمان بن علي وحمد ابن عباس، وغيرهم في غير مسجد الحسيني مثل ابن حنطي وابن شيحة وإبراهيم بن ناصر في حليوة وسديرة - رحمهم الله- ونضَّر وجوههم.. وكان الشيخ إبراهيم بن ناصر -رحمه الله- بطيء الحركة ذا أناة، وكان يُغمِّق لحيته الكريمة بالحناء؛ فزاده ذلك بهاء وبهجة، ولا تزال ترنُّ في أذني تلاوته بعد صلاة العشاء لآيات من سورة يونس ابتداء من قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ}(83) سورة يونس، وإني لأحس بجمال تلك التلاوة حتى يومي هذا مع أن القوم لا يحسنون التلاوة تجويداً؛ فحفظت سورة يونس من جرَّاء ذلك.. وصليت مرة مع الشيخ ابن داوود -رحمه الله- في مسجد الظهيرة أو السويلم -نسيتُ- صلاة المغرب، وكان يريد تلاوة آخر سورة البقرة في الركعتين؛ فنسي وتلاها في ركعة واحدة؛ فاستفتح الركعة الثانية بأول سورة آل عمران، ولم يكن ذا تجويد، ولكنه يُؤثر في القلب.. فقلت في نفسي: ما شاء الله.. حفظةُ كتاب الله لا يُحرجون؟!.. فحفظت ما تيسر من سورتي البقرة وآل عمران؛ فعوقبت بإنسائهما أيام المنعطفات؛ فاصطنعت خشبة طويلة ذات مقعد من فوق مربَّع كبير أضع عليه مصحفاً كبيراً جداً لا أحتاج معه إلى نظارات، فكنت في بعض الصلوات أصلي على بُعدٍ من الخشبة، وأتلو حفظي من القرآن؛ فإذا شككت في آية قربتُ من المصحف؛ فكانت الآيات الكريمة تثبت في قلبي تدريجياً؛ فأنا على يقين إن شاء الله أنني لن أُحرم بركات تلك النشأة؛ فالله يدَّخر لعبده المؤمن العمل الصالح ويضاعفه، ويكتب السيئة سيئة واحدة، ويمحو كبار الذنوب ومحقَّراتها بنعم منه من عمل صالح لم يأبه به الإنسان، وبما ينكِّد حياة المسلم من هَمٍّ وضيق وقلة ذات يد وأعباء رعية وهضم وغبن وظلم وانتهاش لعرضه بالغيبة أو النميمة.. ويلطف ربي بعبده فيصيب منه على قدر تحمُّله؛ ليطهِّره، وما أطمعني في رحمة ربي إلا سعة عفوه؛ فهو الرحيم الودود الرؤوف بالعباد، وهو سبحانه لا يُخيِّب عبده المؤمن إذا علم منه صدق الإيمان.. وقد أسلفتُ لكم في حديث سابق أيام النشأة أنه يصيبني دُوار أو زُكام أو عارض مرضي فلا يكون بين عيني إلا ما بعد الموت؛ إذ ليس في دنياي ما آسى على فقده؛ فأبادر بالتوبة، وغسل ثيابي جديدها وأسمالها، ثم بالاستحمام بالأشنان ثم حدث عوضا عنه بعده صابون أبوعنز.. هذا ديدني؛ فنفعني الله بذلك؛ لأن الله لا يخيب عبدا يخافه؛ وإنني بالله جل وعلا ثم ببركة هذه الظواهر في النشأة لأرجو من ربي حسن الخاتمة، ودموع العصاة تعدل قربات أهل الطاعات.. وفي أيام المنعطفات غير المباركات (الوصف للمنعطفات) لم أخل من فيئات وندم.. كنت عام 1398هـ مع لمة من الأصحاب منهم الأستاذ حمد القاضي -حفظه الله- في العراق في رحلة رسمية انتهت بنزوى في عُمان، ولم نمارس مأثماً بحمد الله، ولكننا منهمكون في المزاح والدعابة، وربما تجاوز المزاح اللمم كموقف طريف للأستاذ حسن القرشي مع أحد المشايخ رحمهما الله تعالى في العلم بقطر لا يخلو من تهكُّم واستغباء (وهذا أمر جارح)، وكان أُنسي بما يستحسنه الجمهور كقصيدة لي عن نجد ألقيتها بالعراق وأخرى بقطر عن (عُود الطرب) على خببٍ نزاري.. وهذه غفلة؛ لأن الأُنس عند المسلم بالله ثم بشرعه ثم بالمباح لا بثناء الناس على عمل دنيوي.. وفي انصرافنا في السيارة كنا نتراجع الحديث والدعابة؛ فأدركني شرود؛ فظن القوم أنني في نعاس، ولم يكدروا عليَّ، وإنما رفعتُ رأسي إلى السماء بحركة تلقائية أدعو ربي في سرِّي أن لا يخترمني كافراً ولا عاصياً ولا مفرطاً، وأن يرفعني إلى درجات المحسنين، وكلما أردت الإخلاد إلى الراحة لم تطاوعني نفسي؛ فأعيد الدعاء السابق، ويُفتح لي بغيره، ودعوة المسافر مجابة، ولله في أيام دهرنا نفحات؛ فهذه نفحات من ربي أشعر أنها لن تضيع وأن الله سينفعني بها بقية عمري.. ومنها أنني أجد مصادفة رجلاً من العوام ذوي الفطرة والثفنات الذين لا يعرفون بنوكاً تلوث المأكل والمشرب والملبس والمركب والمسكن، ولا يعرفون فلسفات تلوث العقول؛ فينشرح صدري لرؤيتهم ومحادثتهم، وأدعوهم إلى منزلي بإلحاح حباً لهم في الله، وحباً لكلماتهم الفطرية المباركة، ودعواتهم وابتهالاتهم الكريمة.. وبعكس أولئك خواجات أحادثهم في الرياض بترجمة الأستاذ سراج الدين إبراهيم رحمه الله، وخواجات في الخارج أحادثهم بواسطة المترجم ممازحة ومجاملة خاسئة، ووجوههم تقطر بالعافية.. ولكن قلبي يلعنهم لكفرهم.. وهناك أدباء عالميون وعرب أُعجب بعطائهم الأدبي فنياً لا دينياً ولا خلقياً؛ فإذا رأيت صور بعضهم استعذت بالله وبصقت عليها.. والحب في الله ذو أثر عجيب في النفس.

وأدركني شيء من مصادر الدادية والسريالية (مع بغضي لعفن هاتين المدرستين)، وقبل ذكر شيء عندي من عناصر السريالية فلا بد من الإحماض بشيء عن الأدب السريالي؛ فهي فلسفة إبداع أدبي وليست إبداعاً أدبياً؛ لأن النموذج الأدبي عقيم فيما تُرجم من شعر الخواجات، وهو معدوم في الأدب العربي الحديث، ولقد رأيت للدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي رحمه الله تعالى تسطيحاً عن السريالية زعم فيه أن السريالية موجودة في أدبنا الحديث، وعدَّ أشخاصاً منهم الشاعر محمود حسن إسماعيل(5)؛ وإنهم لبريئون من السريالية إبداعاً وتفلسفاً، وإنما رام بعض الحداثيين المنتسبين إلى أمة العرب وهم من أهل الثقوب.. راموا الهذر بالسريالية تفلسفاً، وأغربوا بهذر في النموذج الإبداعي لا يختص بالسريالية لو ارتبطت بمعناها اللغوي؛ وإنما هي من مدارس أدبية متناثرة كالوجودية والمثالية واللامعقول والانغلاق الذاتي عند بعض الرومانسيين؛ فإن صنعوا من رومانسيتهم وأحلامهم وأمانيهم ومخاوفهم عوالم خيالية يتصورها الذهن وإن لم يحتملها الواقع فهم سرياليون حقيقة، ولكنهم أندر من الكبريت الأحمر؛ وإنما عند الحُواة أفكار فلسفة سريالية؛ ولكل جديد لذة، ودعوى السريالية جديدة في عصرنا؛ فحاول خنَّاس إنسي هو أدونيس أن يُزيِّن للأدباء الشطح الصوفي فناء ومشاهدة وحلولاً واتحاداً؛ فاستشهد بها، وحملها على نثار(6) من الفلسفة السريالية في كتابه (الصوفية والسريالية)؛ فلما تأملته وجدته عاجزاً عن حمل ما اقتطفه من نماذج صوفية على حقيقة الأفكار السريالية؛ وإنما سوَّد الورق بالهذر والادعاء والمغالطات.. وإبداع أدب سريالي شعراً ونثراً سهلٌ إذا جُرِّدت مصادر السريالية عما استُرحلتْ له من تخريب وشُغل للمواهب بما تتخم به وتقطع به العمر من زخم فلسفي لا يتحصل إلا بعد شدة معاناة مثل السريالية التي تزعم أنها تُبدع أدباً ليس سوى ما تتذكر من عناصر أحلام النوم، وما يشغلنا من أحلام اليقظة، وسأذكر إن شاء الله مصدريهما، وهو في هذر (فرويد) عطاء من (اللاشعور)، وظلت هذه الكلمة بمدلولها المخترع مادة لغوية محفوظة في معاجم (والمعجمات تنطُّع) علم النفس.. وليس في الواقع شيء اسمه (اللاشعور) يكون مصدراً لأي عطاء، وإنما (غير الشعور) الذي سُمِّي اللاشعور يصدق على ثلاثة أمور:

أولها: ما جاء تلقائياً ومصدره الشعور حقيقة إلا أن الإنسان لا يشعر بكيفية اللحظة التي صدر عنها عطاؤه.. وليس المعنى أن العطاء لم يصدر عن شعور.

وثانيها: العجز عن تشخيص عناصر المشعور به بعبارات تحدده كلذة الجِماع مثلاً.. هي شعور لذيذ في النفس تُعبِّر عنه باللذة والشهوة، ولكن لا تستطيع تشخيصه بالوصف.

وثالثها: شيء لم يحصل وِجدانه في المشاعر، أو وُجِدَ ولكن الذاكرة نسيت صورته.. وكما يعمل الفنان لوحته التشكيلية بملكة الخيال التي تُجَرِّدُ أجزاء الصور المشهودة وما بينها من علاقات وفوارق، ثم يُركِّب منها بملكة الخيال أيضاً صورة أخرى لعلها لم تُشاهد في الواقع بذلك التركيب: فكذلك يفعل الخيال السريالي بالأحاسيس الباطنة.. وكلاهما مصدره الحس الظاهر أو الباطن، وفيهما معاً إشباع لِنَهَمِ الخيال وإرادة النفس الحالمة.. والفرد الموهوب في جوع دائم بدافع الطموح، وجوعه أن يُكوِّن لنفسه شخصية فريدة حالمة من مثالية يتمناها.. وخيالُ الموهوبِ أيضاً في جوع دائم إلى إيجاد عوالم غير معهودة التركيب بدافع لذة الإبداع والتجديد، وإذا لم يكن الموهوب الطموح ذا إيمان وعقل حصيف قد يصاب بداء ما يسمونه (انفصام الشخصية)، فيعمى عن واقعه الذي يراه الناس، ولا يبصر إلا مثالية كاملة يتخيلها، ويتكوَّن لديه كبرياء وازدراء للناس وسخط عليهم، إذ لم يقدِّروه حقَّ قدره!!.. وذلك جنون غير مباشر؛ لأنه من وساوس الشيطان لا من مَسَّه.. وكلا الحالمين مصدرهما نِثار من الحس الظاهر والمشاعر الباطنة، والخيالُ يُؤلِّف بينها بالتركيب وإحلال الفوارق والعلاقات التي جَرَّدها من الواقع.. وأداتُه لهذا المطلب من أمرين:

أولهما: عناصر من أحلام النوم التي هي من أضغاث لا رُؤيا تجمعت من ذكريات أماكن وأشخاص مختلفة، وأزمان متباعدة؛ فوحَّد الخيال هُوُيِّتها بأشخاص وأماكن يجمعها زمان محدد أقصر من الأزمنة المتباعدة في حياة الفرد.

وثانيهما: عناصر أحلام اليقظة التي يقتنصها الخيال من طموح الفرد وما يسعده من آمال، وما يؤذيه من آلام.. وهناك باعث غير الطموح المشكور يتعلق بالشهوة وعناصر الهيبية، ولقد نشطت بحمد الله لمداخلة مع السريالية تلي هذا البحث إن شاء الله بجريدة الجزيرة.. وسرياليتي بحمد الله من المباح أو المستحب؛ فأسمع مثلاً بصلاة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالناس وهو جُنُب تيمَّم بالتراب؛ فلما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصليت بالناس وأنت جنب؟) أجاب بما معناه: يا رسول الله: هذا قدر استطاعتي؛ فإني وجدت قول الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(195) سورة البقرة؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه الشريفة.. فمن سروري بضحكة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن إعجابي باستنباط سعد رضي الله عنه تمنيت أنني طرف في ذلك المشهد؛ فهذا أول عنصر سريالي من أمنية دافعها المحبَّة.. وأسمع أو أقرأ مواقف للصديق أبي بكر رضي الله عنه كدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له ليحكم بينه وبين عائشة رضي الله عنهما في خلاف نشب بينهما؛ فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئتِ تكلمتُ، وإن شئتِ فتكلمي أنتِ.. فقالت رضي الله عنها: بل تكلم أنتَ، ولا تقل إلا حقاً.. فغضب أبو بكر رضي الله عنه، وشجَّها حتى أدمى وجهها الكريم، وقال: أوَيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الحق يا عدوة نفسها؟.. فلاذت برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت تخاصمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جئنا بك يا أبا بكر لهذا.. وصالحها؛ فاختلط عندي بكاء ونشوة ومحبة وإعجاب بالأطراف؛ فتمنيتُ لو كانت عائشة رضي الله عنها بنتي وأني صاحب ذلك الموقف؛ فهذا عنصر سريالي آخر، ولكنه مُحال للفارق الزمني.. ومرَّ بي مشهد آخر حينما دخل أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جدال مع عائشة رضي الله عنها تقول: إنما تذكر كثيراً عمر بن الخطاب ولا تذكر أبي -رضي الله عنهم جميعاً-، فأقبل إليها أبو بكر مغضباً يريد ضربها وهو في إقباله يتمتم بكلمة تعيير لضعف فصيلتها من بني تميم، فحال بينهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما خرج أبو بكر -رضي الله عنه- قال - صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها مسترضياً لها: ألا ترين أنني خلصتك من الرجل؟!..

وموقف ثالث دخل فيه أبو بكر رضي الله عنه ووجه عائشة إلى خلال تطل منها على الأحباش وهم يزفنون ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجدار، فقال أبو بكر رضي الله عنه في غضب شديد: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.. فقال صلى الله عليه وسلم: دعها أو دعهم فإنهم في يوم عيد.. وموقف رابع إذ فقدت عائشة رضي الله عنها خاتمها في سفر فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه للبحث عن الخاتم في الإسفار، فجاء الصديق رضي الله عنه يرتعش ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذ عائشة، فكان الصديق (رضي الله عنهم جميعاً ووهب إساءتي لإحسانهم، لمحبتي لهم) ينخس شاكلتيها بسبابته، ويعنف عائشة باللوم بمثل: أتحبسين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل خاتمك؟!.. فكانت عائشة رضي الله عنها تتصبر على ألم، ولا تتحرك تخشى أن يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وموقف خامس: في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وتكريره ذلك وغضبه لما تعلل بعض الصحابة بأن أبا بكر رجل أسيف.. أي بكّاء من خشية الله تحشرج التلاوة في صدره.. إلى آخر القصة عندما قال الصديق: ما كان لابن أبي قحافة أن يؤم بحضور رسول الله أو يؤم برسول الله - نسيت، وكل ذلك من الذاكرة - رضي الله عنه وعن أبي قحافة؟!..

وموقف سادس: عندما أيقظ الناس وقد ذهلوا بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوابه وهو يخطب ويتوعد من قال: (إن محمداً مات)، فأراد من عمر أن يسكت، وقال له: (أيها الحالف على رِسلك)، فأبى عمر السكوت، فقام أبو بكر رضي الله عنه وخطب، وانصرف الناس إليه، وارتجل خطبته الكريمة التي ذكر فيها الناس، واستدل بقوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}(144) سورة آل عمران.

وموقف سابع وثامن وتاسع... عن صلابة الصديق رضي الله عنه - على الرغم من ضعفه وكبر سنه - مع مانعي الزكاة، وتجهيز جيش أسامة رضي الله عنهم، وذهابه إلى فاطمة رضي الله عنها يستعتبها ويرضيها ويشهد لها بما سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهد به الآخرون: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) حتى بكي وبكى آل هاشم رضوان الله عليهم، وكان عمر رضي الله عنه مشفقاً من ذهابه وحده إلى بني هاشم، فانفتل منه الشيخ وكأنه في الفتوة..

وموقف عاشر: عن إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه.. وموقف فوق العاشر: عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحاً منتصراً مطأطئاً برأسه الشريف إلى الأرض تواضعاً وحمداً لربه وأسود النهار رهبان الليل رضي الله عنهم يحفون به من كل جانب.. ومواقف أمثالها كثيرة لا أحصيها عداً، فهذه مواقف أقرؤها أو أسمعها فتهزني، ويحصل لي إجهاش ونشوة وتفدية ومحبة، ثم تراكمت هذه المواقف في ذاكرتين وتراكمت مشاعرها في قلبي، فكنت في وحدتي وخلوتي أسرح في الخيال، وأركب من تلك المواقف والمشاعر مواقف كأنها واقعية أحلم بها في يقظتي بابتداع موقف نلت به ابتسامة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو دعاء، أو ثناء، وكل ذلك من أماني المحال، للبعد الزمني.. والخناس الوسواس أذل وأحقر من أن يوسوس لي بهذه السريالية الخيرة حتى تنفصم بها شخصيتي، لأنها منبثقة من إيمان ومحبة وأماني خير أرجو أن أثاب عليها.. ونية المؤمن خير من عمله, وذلك حديث قرأته في أحد شروح الإمام ابن عبد البر رضي الله عنه وفي غيره، وهو حديث ضعيف، ولكنه صحيح المعنى، فالنية الصالحة لا يدخلها نقص ولا رياء والعمل يدخله ذانك، والله سبحانه يكتب للمسلم أجر نيته، ويكتب له ما كان يعمله من الخير إذا أقعده مرض، لأن ذلك العمل في نيته وعادته يوم كان صحيحاً.. ولكنني أقطع هذه السريالية ولا أصوغها في عمل أدبي، لأن ذلك تزكية للنفس، وإنما كتبت سرياليتي في أمر مباح نشر أو سينشر في احدى الدوريات بعنوان: (الحية من الحياة).

قال أبو عبدالرحمن: وكنت كررت القول عن خفضي لصوت الراديو في محطة إذاعة القرآن الكريم، ولذلك أسباب منها أنني أسمع أحياناً وعظاً منمقاً مع محاولة التحلية ببعض الملح، ولكن ذلك لا يدخل قلبي لأسباب أعرفها، فتنقبض نفسي.. ومنها أنني أسمع أحياناً تمعلماً يؤذيني عن علم غير محقق، فتسمع أحدهم يقول: (قال فلان كذا، وقال فلان كذا)، ثم يعطف بقوله: (والصواب كذا)، فتشرئب للبرهان، فإذا هو يقول: (قال فلان كذا)، وكل براهينه: (قال فلان كذا) والنقل من كتاب واحد، فأولى به أن يكون كلامه بعنوان: (قراءة في كتاب فلان)، فإن كان من أهل العلم فليعط الاستيعاب وفهم المعنى والبراهين حقها من البسط والتبسيط.. وآخر يتعرض للمجاز، فينفيه، ويستدل بأدلة من شبه غيره، فإذا مر بمثال لا مخرج عن حمله على المجاز قال: (والحق أن هذا من أساليب العرب)، فمن قال للمسكين إن المجاز لم يكن أهم وأكثر أساليب العرب؟.. وإذا كان البدعيون افتروا دعوى المجاز في موضع فالربانيون يلجؤون إلى ما صح من المجاز في مواضع كما في الدعاء الصحيح: (اللهم أنت عضدي وأنت نصيري)، ومثل: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)، فمحال في حق متق لربه أن يحمل مثل هذه النصوص على غير الصحيح من مجاز لغة العرب، والتمحل في جعل المعاني المجازية حقيقة جمع بين النقيضين، ولا يحصل منه تصور، والتكلف فيه كالتكلف في حمل نص الشرع على غير معناه على ما يفعله الباطنيون وأدعياء الكشف وأهل الأهواء.. وهكذا يؤذيني من يتحاكى بعلم غيره ولا يغوص في كتب العلماء فيحقق ويدقق، ثم يبث علمه هو ببراهينه ونتيجة استقرائه.. ومما يؤذيني وعاظ يتفننون في إثارة المشاعر بالتهويل، وتغلبهم العامية أحياناً، ويسيرون على منهج القصاص وسرد ما لم يوثق لأجل التأثير على القلوب، ويذكرون نصوصاً بمداخلات وإضافات غير مأثورة، ومثلهم كمن يتلو شيئاً من الشعر العامي المطبوع على أنه رواية، ثم يسف ويمل بمقدمات يفسر بها بعض أبيات القصيدة و لا وجود لما ادعاه، وربما غير لهجتهن وربما أسرف في الإغراب واصطناع الملح!.

قال أبو عبدالرحمن: الذي أدين لله به أن الاحتجاج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس من دين الله في شيء وإن قال بذلك عدد من العلماء الأفذاذ الربانيين العباد إلا أن يكون الحديث صحيح المعنى، فتذكر ضعف إسناده وتبرهن على معناه من النصوص الصحيحة، وحكم الحديث الضعيف التوقف حتى يقوم البرهان من نص آخر صحيح أو نصوص صحيحة تشهد له، فيكون حسناً رجح ثبوته بالتعضيد، أو يكون صحيحاً لغيره.. وأما ما يسرده الزهاد المتلمذون على بعض مشايخ الطرق من نص عن رجل في القرن الثاني مثلاً: عن عيسى بن مريم أو داوود أو موسى عليهم وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام، وكذلك ما يوردونه من حكايات ومنامات واستنباطات ذوقية غير علمية: فكل ذلك ليس من دين الله قطعاً، وقد وجدت في كثير منه ما يخالف الشرع، ووجدته رهبانية ليست في الشرع، وحكم كل ذلك الرد، لأن الله سبحانه لم يتعبدنا بالتكثر بالباطل، ولأن في صحيح الشرع غني عن غيره من الادعاء، ولأن المؤمن مفطور على تصحيح العلم رواية ودراية حتى يذعن عقله المتربي على شرع الله، فينفعل بعد ذلك قلبه، ولأن صحة التصور تسبق دائماً السلوك وتزكيه.. وكنت أصغي في إذاعة القرآن على كره إلى محاضرة وعظية عن بر الوالدين مشحونة بالتكلف في الأداء، والزيادة في المداخلة، مع ذكر قصص معاصرة يذكر أنها واقعية، وفي النفس منها شيء حتى يقوم برهان وقوعها، ولكم تأذيت في حياتي من التباكي، وإنما يأتي البكاء خشية لله، وتأثراً بالمعاني من النصوص الشرعية على الرغم (7) من المسلم، وأكثر ما يكون ذلك في الخلوة، وربما بدأ من الفرد بعض التأثر مع الجماعة، فيكتم ذلك حسب القدرة.. وبكاء الخلوة الذي يغلب المسلم ليس صراخاً ولا عويلاً، كما كنت أسمعه منذ عشر سنوات في صلوات التراويح، وأخشى أن يكون رياء، والصديق أبو بكر رضي الله عنه خير الأمة بعد عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وأنوف مبغضي الصحابة راغمة واحلة)، وهو (الأسيف) لم يكن بكاؤه غير أزيز وحشرجة في الصدر، فهو يغالب نفسه رضي الله عنه.. ومما سمعته في خطبة الواعظ قصة أمية ابن الأسكر وابنه كلاب رحمهما الله تعالى، فاضطررت إلى استقراء أخبار آل الأسكر باستقصاء حسب القدرة، لأعلم مدى صحة القصيدة القافية التي هي من موضوع محاضرته، فسجلت رسالة عن آل الأسكر من ناحية حياتهم وحديثهم وشعرهم، وعنيت بالقصيدة القافية المتعلقة بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعتب أمية بن الأسكر عليه ليرد عليه ابنه كلاباً، أو ابنيه كلاباً وأبياً وهما في الغزو والجهاد، وكان أمية قد أوشك عمره على مئة وعشرين عاماً، وقد خرف، فوجدت في المصادر على مدى ستة قرون اختلافاً كثيراً. واضطراباً شديداً، والقصة لها أصل ضعيف محدود، فتورمت بالاضافات والنسيج من قبل كل راو كابن الكلبي وابي اليقظان وإبراهيم البيهقي صاحب كتاب المحاسن والمساوئ، وهو رجل مجهول العين والحال، فمثل هذا الوعظ تنقبض منه نفسي للمبالغة في الأداء، ولأن النص غير موثق، بل فيه تناقض واضطراب.. وإن في النصوص الشرعية الصحيحة ثبوتاً ودلالة ما يغني ويرضي العقل ويستجيش المشاعر.. كما أسمع في رمضان برامج وعظية تستفتح بنوع من الضجيج والتباكي الذي يجلب الغثيان، ودين الله صدق لا تكلف فيه ولا تعمل.

قال أبو عبدالرحمن: وقد يوجد من يتورم عقله بالغرور، فيعتقد أن آثار الخناس الوسواس شيء تخيله الإنسان فصدقه.. وربما زم شفته أمام تجارب المسلمين المتواترة وقال: (أين أهل العقول؟!)، فهذا بين له البراهين العلمية برفق إن وجدت منه اضغاء، ولا تزده جدالاً، بل أجبه عما يسأل عنه برفق، فذلك أرفق به، وادع الله له بالهداية، لأن من بلغ منه الغرور بعقله الفردي إلى هذا الحد في مكابرة الشرع والتجارب المتواترة يخاف عليه أن يتمادى به العناد، فينحرف إلى ردة، وإنما أمرنا أن نكون مبشرين لا منفرين.. وسبق هؤلاء المغرورين زنادقة افتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب مثل: (لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه)، ليجعلوا الإيمان سكوناً إلى أمر غير صحيح تنتفع به النفس إذا اعتقدته.. مع أن المؤمنين إنما يقيمون إيمانهم على البراهين العلمية، ولا يأنسون بالباطل، والله المستعان.

هوامش

(1) قال أبو عبدالرحمن: الغَنَاء بفتح الغين المعجمة اسم لكفاية وإجزاء من يقوم بكفايتك ما تريده من مال أو فعل.

(2) قال أبو عبدالرحمن: لاحظتُ بعض المرات تعمد الشيخ محمد رفعت رحمه الله طمر آيات الإيعاد بالنار، وحرصه على ترديد آيات الوعد بالجنة.. وتلك طريقة غير محمودة انتهجها التبليغيون، وهذا تجهيل منهم لربهم سبحانه الذي أرسل رسله عليهم الصلاة والسلام مبشرين ومنذرين، وما في ذلك من حكمة قهر الذنوب بالخوف من الله، والإكثار من الخير طلباً لمزيد النعم، وهذه حال العباد الصالحين كما قال سبحانه عن آل زكريا عليهم السلام: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }(90)، سورة الأنبياء (89-90) بل يُغلب المسلم جانب الخوف حال صحته ونشاطه؛ فإذا ضعف وكانت عبادته على قصدٍ وكُلفة فليغلّب جانب الرحمة والعفو وحُسن الظن بربه مهما علم من نفسه من ذنوب وتقصير.. ومن نماذج ما لاحظته على الشيخ ههنا أنه تلا من سورة المائدة ابتداء من قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ.. }حتى وصل إلى قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36 ) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }(37 ) سورة المائدة( 36-37)، فلم يقرأ هاتين الآيتين في الإيعاد، ثم تعوذ وبسمل، وتلا ما بعدهما.. وكان يقرأ في سورة هود إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103)وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104)يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }(107)، سورة هود (99-107) فلم يقرأهن؛ لأن هذه الآيات الكريمات في الإيعاد، ثم أخذ يردد كثيراً بتفنن في الأداء قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } (108)سورة هود. ولم يقرأ غيرها!!

(3) قال أبو عبدالرحمن: (شيخ الإسلام) أُطلقت على الإمام ابن تيمية وعلى من هو دونه في العلم، وكان الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي رحمهم الله تعالى ينكر هذه الألقاب الحادثة، ولكنني كرهتُ هذا اللقب باجتهادي؛ لأنه لا شيخ للإسلام إلا مبلّغه ومبيّنه، وهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ وإنما للمسلمين كافة من أحيائهم وأمواتهم شيوخ هم الأئمة الأربعة الراشدون رضي الله عنهم الذين أمرنا باتباع سنتهم، ومع هذا لم يطلق على أحد منهم رضي الله عنهم (شيخ الإسلام)، فلو جاز هذا اللقب لكانوا أحق به وأولى.. وإضافة (شيخ) إلى مسلمين جائز لجماعة من المسلمين لهم شيوخ في عصر ومصر، وهم المبرزون في العلم.. وشيخ الإسلام تعني العصمة؛ فاعتقادي الذي أدين به أن هذا اللقب مبتدع لا يجوز إطلاقه على كبير من العلماء، وإنما هو شيخ لمن قلده، وليس شيخاً للإسلام.. وهو شيخ في الإسلام لا له؛ لما يبثه من أحكام الديانة الراجحة في اجتهاده، وهو شيخ لمن تلقى عنه العلم في حياته.. وحصلت مني في صلف الشباب هفوة أستغفر الله منها؛ إذ لقبت الإمام ابن حزم رحمه الله بإمام الدنيا؛ فهذا لقب أكبر شناعة.

(4) قال أبوعبدالرحمن: الرادح بمعنى الراقص عامية مأخذها من معنى الانبساط في مادة (ردح)؛ فكأنه ينبسط خاطره بالرقص، أو من ترديح الشعر بمعنى بسطه واستوائه وزناً وفصاحة، وإيقاع الشعر يصاحب الرقص أحياناً أو يُحاكيه.. والرَّدَح بفتح الدال المهملة انبساط الأيام بطولها.. تقول: (أقام عندنا رَدَحاً من الزمن).. ومن معاني (ردح) ثِقل السحاب بالماء في السحابة المنداحَة، والرقص الشعبي من راقصين ذوي سِمَن يُسرفون في دكِّ الأرض عند الرقص؛ فكأنهم يهضمونها عن ثِقَل.

(5) انظر كتابه مدارس النقد الأدبي الحديث ص176/ الدار المصرية اللبنانية عام 1416هـ.

(6) قال أبوعبدالرحمن: النثار بكسر النون اسم للمنتثِر، والمصدر لنثر (نَثْرٌ)، وجُعل النثار مصدراً ثانياً، وقد حققتُ في غير هذا الموضع أن مصدر الفعل واحد لا غير، ثم يعمل عمل المصدر غيره من الأسماء؛ فقال النحاة بتعدُّدِ المصادر لأجل ذلك.

(7) قال أبو عبدالرحمن: من المعلوم أن الرغم والرغام بمعنى التراب، ويظهر لي من سياق استعمال المادة أن المراد التراب الدقيق لا عموم التراب، لأنه هو الذي يحصل به تعفير الأنف وإذلاله.. والأفصح أن تقول: (على الرغم) بضم الراء المهملة المشددة، للدلالة على الاسمية، وأما فتح الراء المشددة فهو للمصدر.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد