Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/11/2009 G Issue 13566
الخميس 02 ذو الحجة 1430   العدد  13566
كلمات
الإبداع الثقافي.. كيف ولماذا؟
محمد بن أحمد الشدي

 

هناك عدة نظريات حاولت أن تفسر الإبداع منها، النظرية العقلية التي ترجع الإبداع العقلي إلى الجهد والوعي والنظرية الاجتماعية، التي ترى أن الثقافة وليدة المجتمع إلى جانب نظريات أخرى كثيرة كالتأثيرية والانطباعية ونظرية الإلهام التي ترى أن الإبداع مصدره الإلهام فقط.

لكن هل استطاعت كل هذه النظريات أن تجد لنا تفسيراً مقنعاً ومقبولاً وواقعياً لطبيعة الإبداع ودوافعه، في ظني أن جميع هذه النظريات لم تستطع أن تحدد لنا بدقة ماهية الإبداع فلنتجاوزها إلى حين، ولندخل إلى لب الموضوع مقررين أن الإبداع الثقافي عامل هام من عوامل التنمية ويرتبط غنى هذا الإبداع بحيوية المبدعين وقدرتهم الخلاقة ويؤثر الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمبدعين على قدراتهم الفنية والإبداعية، وفي مجال الإبداع الثقافي تتوقف الآلية التنموية إلى حد كبير وتتقدم الموهبة ويضمر عمل الوسائل والتنمية الصناعية، ويبرز جانب العطاء الذاتي والعبقرية الشخصية بجميع أشكالها من فنية جمالية أو علمية أو أدبية، وتنتقل الثقافة من دائرة التذوق والنشر إلى دائرة الإلهام والعطاء.

والإبداع الثقافي أنواع، فهو يأتي من الكلمة شعراً ونثراً كما يقوم في اللون والتشكيل وفي المادة تصور الحياة وفي القصص ويكون في اللحن وفي إبداع الحركة والموقف والصورة مسرحاً وسينما وفي البناء الفكري فلسفة وإنتاج فكر، وفي الفنون الشعبية وتكوينات الخط ويمكن تحقيق ذلك كله بتكثيف الإعلام والتحريك المتزايد للأعمال الفنية عن طريق المعارض والنشرات وغيرها.

إن التوصية الأساسية التي يمكن أن تقدم في مجال الإبداع والثقافة الإبداعية عامة هي التشجيع والدفع وجعلهما الهم الأساسي في كل سياسة تنموية ثقافية، فالإبداع إذن هو التعبير عن حيوية الثقافة، والثقافة التي يتوقف فيها الإبداع تدخل مرحلة الجمود والسكون وتتوقف عن الحياة، فكيف نسد النقص أو الفراغ في الثقافة العربية ونحرك النهضة الثقافية ونستثيرها؟!.

وفي الجواب على ذلك نقرر أن أي نهضة ثقافية لابد لها من نظرية معرفية متأملة ينجم عنها موقف ثقافي مميز، ونحن ما نزال نفتقد المنظور الشمولي المتكامل رغم ملايين الأبحاث التي قدمت في هذا السبيل، ومثل هذه الرؤية الحضارية هي مسؤولية الطلائع الفكرية بالذات لأن الإبداع الثقافي عملية طليعية، صحيح أنها تعتمد على القفزة في المجهول وعلى ركوب التصورات ولكنها تتغذى أيضاً من النظريات العلمية سواء في العلوم الإنسانية والاجتماعية أم التطبيقية كما تتغذى من جذور التراث وآفاق الطموحات البعيدة للأمة فهي القاعدة لكل منطلق فكري.

إن عملية الإبداع الثقافي في الأدب والشعر كما في القصة والرواية وكما في المسرح أو السينما أو الموسيقى أو الإنتاج الفكري، إنما هي في النظرة المتجددة باستمرار إلى عقد المجتمع ومساراته وطموحاته وفي إعطائه الأبعاد التي تجعل تطوره أكثر سرعة ومعاناته للحياة أكثر عمقاً ونظرته للمستقبل أكثر بعداً وشمولاً وسمواً، ولعل أجل خدمة تؤديها الجهات ذات العلاقة بالإبداع هي التدخل لإلغاء الطابع التجاري عن عملية الإبداع وذلك بإبعاد المنتجات الثقافية من كتب ولوحات ودوريات عن الاستغلال المادي، وتيسير تداولها بين الناس وتأهيل المنشطين للعمل الثقافي وإعادة تأهيلهم باستمرار وحماية الإبداع الفني الثقافي من عواقب التحرج الاجتماعي والسرقات الأدبية والفنية والإنتاجية مع الاهتمام بالتوثيق والتسجيل باعتبار الإبداع ثروة وطنية وقومية، وفتح جميع قنوات التعاون لينمو الإبداع بالتلاقح الدائم والتلاقي المستمر.

والثقافة هي مستودع الهوية والأصالة لأن الهوية الثقافية هي في واقع الأمر جزء عضوي من فكرة الثقافة لأنها مهما اختلفت أنواعها فإن التعبير عنها يظل ذاتياً بصورة من الصور، وإذا كان ذلك حقاً فإن من الحق أيضاً أن الثقافة دائماً عالمية من حيث الوظيفة لأنها تتوجه إلى كل إنسان، فهي تنطوي إذن على الظاهرتين المتناقضتين.

إن الإبداع مرتبط ارتباطاً عضوياً بوسيلة التعبير التي ينبغي ألا تتأخر وألا تتخلف عن المضمون، وإن الأثر الأدبي الكبير هو الذي يجد انسجاماً وانصهاراً بين الشكل والمضمون، لذلك فإن غلبة الشكل على المضمون تؤدي إلى الوقوع في التصنع اللغوي الذي يتناقض مع الإبداع.

وما دمنا نتحدث عن الشكل والمضمون فلا بأس في أن نستطرد في ذلك ونقول إن الأدب الجيد له وجهان مضمون مؤثر، أو شكل معجب، ولذلك فإن الإبداع يكون عن طريق أحد الوجهين، فأبو العلاء المعري عندما سئل عن الشعراء الثلاثة أبي تمام والبحتري والمتنبي قال أبو تمام والمتنبي حكيمان، والشاعر البحتري. فجعل نصيب أبي تمام والمتنبي المضمون ونصيب البحتري الشكل، وإذا كان الإبداع يبرز في الشكل أكثر من بروزه في المضمون فإن شهرة أصحاب المضمون قد تتجاوز وتفوق شهرة أصحاب الشكل.

ويختلف الإبداع عن التخصص، ومع أن التخصص له ميزاته، حيث يساعد على الفهم المتعمق للأشياء بحيث يكون الفرد متخصصاً وخبيرا في مجال معين، إلا أن للتخصص عيوبه التي تبعده عن الإبداع فهو يؤدي إلى ضيق الأفق والاهتمام بالتفاصيل والجزئيات على حساب الشمولية، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى بناء إمبراطوريات معرفية غارقة بهمومها منكفئة على ذاتها قابعة في برجها العاجي بعيدة كل البعد عن المشكلات الواقعية الحياتية.

وتبرز ثنائية الإبداع والتخصص بشكل أكبر في المجال الأكاديمي، حيث إن الدراسة الشكلية الرتيبة لا تستطيع أن تمنح الخصوبة الإبداعية لعقل مجدب ولا أن تسدي الثراء لموهبة فقيرة.

إن عملية الإبداع لا يمكن وصفها سهولة ويسر، حتى من المبدع نفسه لأنها أكثر معاناة من المعاناة ذاتها فعندما يجد المبدع نفسه بعيداً عن مجرى الحياة محلقاً في أجواء اللاشعور، تحف به هيمنات روحية تسري في كيانه فتتحول إلى قصيدة رائعة أو صورة جميلة أو لحن عذب ثم بعد ذلك يستريح من تعب المعاناة ويهدأ ويستقر بعد القلق والاضطراب، ويرجع من غيبوبته فلا عجب أن اعترته الدهشة وساورته الغبطة واعتراه الرضا عندما يقرأ إنتاجه في صحوة النفس وهدوء العقل وسكون الخيال وكأنه لم يكتب هذه القصيدة أو ينظم هذا اللحن أو يرسم هذه الصورة، وهذا الطرح الإبداعي هو ما يمكن أن نعتبره التلاقح الواعي بين المبدع ومجتمعه الصغير وحتى مجتمعه الكبير الذي يسجل الخلجات المتنافرة، والعواطف المتباعدة، والرؤى المتناقضة، لهذا نتعرف على كاتب ما من أسلوبه وثقافته وطريقة كتابته واستخدامه لمعايير وأوصاف تنبع من أعماق نفسه وتعطي شخصيته استقلاليتها الأدبية والفنية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد