فيما يأتي قصّة، وفي هذه القصّة طرافة، وبها عبرة، وفي آخرها غصّة، فمن المعروف أن مساجد البصرة كانت مقراً للعلم ومستقراً للعلماء في فترة من فترات الازدهار في تاريخ الإسلام، كان يؤمها الطلاب ويقصدها المشاهير، يأخذ أولئك وهؤلاء في شتى العلوم وجميع الفنون، يقعد العالِم مقعد الدرس بعد كل صلاة، ويتحلّق حوله الدارسون والباحثون، ويتبادل الجميع النقاش، ويتحاورون ويبدعون، وتتداول المصنفات النافعة وتُلقى الدروس المفيدة.
|
ومن هذه المساجد يطير صيت الأعلام من المدرسين في البلدان، وفيها ينبت جيل منهم بعد جيل، سمع بهذا وعرفه القاصي والداني، وممّن سمعوا به (متعالم) في اليمن، وهو طالب يافع ولكنه ذكي أريب، طموح يحب العلم ويسعى إليه ويسافر من أجل تحصيله، قرر هذا أن يغادر وطنه إلى وطن الثقافة والمعارف في البصرة، سافر وقطع الفيافي والقفار، وتحمّل قسوة المهامِهِ وغربة الديار، إلى أن وصل إلى مراده، وأناخ بالبصرة التي طالما حلم بالدراسة والتحصيل في مساجدها والاستماع والاستفادة من علمائها ومزاملة النجباء من طلابها ونَيْل الشهرة الذائعة فيها.
|
ولكن الشيطان سوّل (لصاحبنا) بعد أن رأى في البصرة ما يثلج الصدر ويُطمئن الخاطر ويسرُّ الفؤاد ويبعث الأمل أن يقلب المعادلة، وأن يزعم لنفسه التمام في اللغة وفروعها من علوم آلة اللسان.. إذن لماذا لا يجلس في المساجد مجلس المُلقين لا المتلقِّين؟.. ولماذا لا (يَهِكّ) على الجميع فيزعم أنه عالم اليمن النّحرير، وواحدها الفذّ الفريد الذي لا نظير له ولا كفؤَ يماثله في فقه العربية ونحوها على وجه الخصوص؟ فبهذا ينقلب الطالب مطلوباً والتمليذ أستاذاً في غفلة من الزمن ومن الدارسين، إنه الشيطان الوسواس الخنّاس فعل فعله وأقنع النفس الأمارة بالسوء بما أراد، هذا الذي وقع في نفس (اليمنيّ) برداً وسلاماً ويقيناً لا شك فيه.
|
شرع (متعالمنا) في التنفيذ، فقصد المسحد الأكبر في المدينة بعد ذات عصر، وأعلن أنه (علاّمة) جديد يَفِدُ للمرة الأولى من اليمن السعيد، إلى بصرة التجديد، ومن أقصى الأمصار، إلى موطن العلوم والأخبار، وأنه سيحلّق ويُسمع الجميع من العلم ما لم يسبق لهم أن سمعوه، وبالفعل ألقى درسه الأول على جمع غفير من الطلبة حضروا من كل حدب وصوب وتحلّقوا حوله ليسمعوا عالِم اليمن (الجليل)، شرّق وغرّب، وأسهب وأطنب، جلجل وعَلَت نبرته، جوّد ما يُلقي، وأجاد المتلقون التلقي، فات الأمر على الجمهرة، وانطلقت الخدعة على الكثرة، ولكن فئة قليلة من الطلاب المستمعين كانوا على قدر من الدهاء والذكاء وحسن الإصغاء اكتشفوا من الوهلة الأولى أن صاحبنا وإن كان عالي الصوت واثق النبرة تطل من ألفاظه الثقة في عمله والاطمئنان إلى فهمه والركون الى إحاطته فإنه دجّال أَشِرْ وعويلم صغير ومدّع كبير و(بكَّاش) ليس له نظير، فاجتمعوا على إحراجه وإخراجه بطريقة ماكرة وذكاء فريد، فاقترح أحدهم على زملائه أن يخترعوا كلمة واحدة يؤلفونها من أحرف متعددة يقترحونها بأنفسهم، ومن الطبيعي والحالة هذه أن لا يكون لمثل هذه الكلمة مكان في مَتْن اللغة ومن ثمَّ في المعاجم اللغوية، اقترح أحدهم حرف الخاء واقترح الثاني النون والثالث الفاء والرابع الشين والخامس الألف واقترح الأخير حرف الراء، ثم جمعوا هذه الأحرف فوجدوها قد أصبحت (خُنْفُشار)، وبعد عصر اليوم نفسه وعندما بدأ الشيخ التدريس بأُبهته وفخامته ووجاهته وعمامته وجبته وسائر معدّات علمه رفع أحد هؤلاء الطلاب إصبعه مستأذناً وسأله: يا مولانا أحسن الله إليك، ما معنى (الخنفشار)؟ ففوجئ الشيخ الهمام، بسؤال الطالب الضّرغام، واحتار فيه، وتلعثم كل ما في فيه، ولكن حيرته لم تطل، وبُهْته لم يستمر، فسارع ببديهة حاضرة وذكاء فطريّ لم يصقله علم حقيقي، وأجاب بعد برهة توقف، للتأمّل بدون تأفّف، اسمع يا بُني وعُوا يا أولادي، (الخنفشار نبات ينبت في اليمن، ورقه أخضر، وجذره أصفر، وبه يعقد العربُ حليبهم وقال شاعرهم:
|
لقد عقدت محبتكم بقلبي |
كما عقد الحليبَ الخُنْفُشارُ) |
يا إلهي، ما هذه البديهة الحاضرة الناضرة التي تشفع لصاحبنا عن قلّة علمه، إنه جواب أمكر من المكر، فهو يعلم أن طلابه بصريّون لم يغادروا بصرتهم قط، وهم لذلك لا يعرفون اليمن أصلاً ولا نباتاته بالطبع، لذلك لم يكذبوه أو يجادلوه، هذه واحدة، والأخرى أنّ كل النباتات التي خلقها الله في اليمن وفي غير اليمن أوراقها خُضر وسُوقها صُفر، لذلك فهو متأكد أن إجابته سيغفل المستمعون عما فيها.. أمّا ذروة الذكاء وقمة الفكاهة فضلاً عن حضور البديهة فهو الشاهد الشعري الذي ركّبه ارتجالاً ووضع فيه الكلمة مناط الاحتجاج التي هي بدورها مصنوعة لا أساس لها في اللغة، ثم رتَّب على هذا كله شاهداً نحوياً جديداً على تقديم المفعول به من موقعه الطبيعي المتأخر على الفاعل في اضطرار الشعر كاختيار النثر، وبهذا دخل هذا الشاهد تاريخ النحو ودراساته من أوسع الأبواب.
|
حدثت هذه القصة في زمن سابق بعيد وفيها غُصَّة، وما أشبه الليلة بالبارحة وفيها ألف قصّة بألف غُصَّة.
|
|